منذ اندلاع الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، يبقى الحديث عن السلطات المطلقة للمرشد الأعلى من المحرمات، إلا أن هذه القاعدة بدأت في الزوال شيئاً فشيئاً، وكان آخرها رد الفعل الناجم عن اعتقال رجل الدين البارز آية الله حسين الشيرازي.
جنيف عبده الباحثة بمركز أبحاث المؤسسة العربية قالت، في مقال لها بوكالة Bloomberg الأميركية، إنه ورغم تجاهل وسائل الاعلام الغربية اعتقال الشيريزاي، فإن الجدل حول احتجازه في مارس/آذار 2018، أعاد إثارة نقاشٍ مهم حول ما إذا كان يمكن للمرشد الإيراني الأعلى، آية الله علي خامنئي، أن يدَّعي وجود مباركةٍ إلهية لسلطاته غير المحدودة لحكم الدولة.
وأضافت: "على الرغم من وجود نقاشٍ دائر في المذهب الشيعي منذ أن أضفى آية الله الخميني الطابع المؤسسي على نظام الحكم الديني، أو ما يُعرَف بـ(ولاية الفقيه)، بعد فترةٍ وجيزة من الثورة الإسلامية عام 1979، فإنَّ الاستياء الآن في تزايد. وعلى وجه الدقة، يوجد اعتقادٌ متزايد داخل المجتمعات الشيعية بأنَّ ترسيخ السلطات كافة في يد شخصٍ واحد أمرٌ يناقض التقاليد الشيعية، وأنَّ منصب المرشد الأعلى يجب إصلاحه أو إلغاؤه تماماً".
وفي 6 مارس/آذار 2018، احتجزت السلطات الإيرانية قرب مدينة قُم المقدسة، آية الله حسين الشيرازي على يد قوات الحرس الثوري الإيراني.
ويُعَد الشيرازي ووالده القوي للغاية، آية الله صادق الشيرازي، معارضَين شرسَين لحكم خامنئي. وأفادت تقارير بأنَّ حسين الشيرازي وصف المرشد الأعلى بـ"الفرعون" في واحدةٍ من محاضراته الأخيرة، ما وفَّر الذريعة لاعتقاله.
وسرعان ما أعقبت ذلك احتجاجاتٌ في إيران وخارجها. فبعدما أدان رجال دينٍ شيعة في الكويت والعراق اعتقاله، وقعت بعض الاضطرابات بمدن العراق الشيعية المقدسة في كربلاء والنجف والبصرة، فضلاً عن مدينة الكويت. وتجمَّع المتظاهرون في لندن خارج السفارة الإيرانية، واعتُقِل 4 منهم بعد تسلُّقهم رواقها وإنزال العَلم الإيراني. لم يكن أيٌ من هذه الاحتجاجات كبيراً -إذ تتراوح التقديرات بين بضع عشرات إلى بضع مئات من المشاركين- لكنَّها مع ذلك كانت ملحوظة.
وبحسب المقال، فإن عائلة الشيرازي التي يتحول أبناؤها إلى رجال دين منذ القرن التاسع عشر، تُمثِّل مدرسةً نافذة في المذهب الشيعي. ويتمتع آية الله العظمى صادق الشيرازي بحضورٍ واسع على الإنترنت؛ إذ يُلقي محاضراتٍ باللغتين العربية والفارسية مصحوبةً بترجماتٍ إنكليزية، وتُبَث في 18 قناةً تلفزيونية و3 محطات إذاعية في أنحاء العالم الإسلامي.
فصل الدين عن الدولة
وتُفضِّل بعض الشخصيات الرائدة في المدرسة الشيرازية فصل الدين عن الدولة، وهو تقليدٌ شيعي ذو تاريخٍ طويل. ولا يعارض آخرون ولاية الفقيه من حيث المبدأ، لكنَّهم يعارضون الطريقة التي أفسد بها الخميني ومن بعده خامنئي، المفهوم بتركيزهم أدوات السيطرة كافة على الدولة في يد المرشد الأعلى، الذي يستحيل تقريباً عزله من السلطة، كما تقول الكاتبة.
ويعارض بعض رجال الدين الآخرين في قم -التي تُعَد مركز التعليم الديني بإيران- حكم المرشد الأعلى على أسسٍ دينية، حتى لو لم يكونوا من أتباع المدرسة الشيرازية.
وتابعت الكاتبة: "حين كنتُ صحفيةً لدى صحيفة الغارديان البريطانية في التسعينيات، حاورتُ الكثير من رجال الدين الإيرانيين، الذين أخبروني بأنَّهم لا يعتقدون أنَّ شخصاً على قيد الحياة يجب أن يتمتع بسلطاتٍ إلهية مطلقة. يقول هؤلاء إنَّ المرشد الأعلى لا يمكنه أن يُمثِّل الإله على الأرض. وكان نظام طهران عازماً على إبقاء تلك المعارضة سراً، لدرجة أنَّني مُنِعتُ من السفر إلى قم".
الجني خرج من قمقمه
ولكن الآن، بعد 4 عقود على الثورة الإسلامية، خرج الجني من قمقمه؛ إذ مكَّن السخط الواسع داخل المجتمع الإيراني الشيرازيِّين وقادة دينيِّين آخرين من نشر رؤاهم. وفي العراق أيضاً، يعارض القادة الدينيون في النجف بشدةٍ، الحكم الديني الأسمى، ويبحثون عن سبلٍ لتقليص نفوذ إيران الديني والسياسي على بلدهم، بحسب الوكالة الأميركية.
وقبل الانتخابات الوطنية العراقية التي تجري في مايو/أيار 2018، تُشكِّل الأحزاب الدينية الشيعية تحالفاتٍ مع سُنَّة وقوميين، على أمل أن يتشكَّل البرلمان العراقي المقبل من عددٍ أقل من الموالين لإيران، وأن يكون رئيس الوزراء المقبل أكثر تحرراً من مطالب طهران، بحسب المقال.
وإن لم يكن لهذا أي أهميةٍ أخرى، فعلى الأقل ينبغي أن يكشف زيف فكرة أنَّ الشيعة كلهم سواء؛ إذ تمسَّك الشعية العرب تاريخياً برؤىً دينية وسياسية مختلفة عن أقرانهم في إيران، لكن مع ذلك يُنظَر إليهم في كثيرٍ من الأحيان في الغرب باعتبارهم موالين للجمهورية الإسلامية.
لكل تلك الأسباب، تُعَد الاحتجاجات المتعلقة بالشيرازي مهمة. حكمت محكمة رجال الدين الخاصة في إيران مبدئياً على رجل الدين حسين الشيرازي بالسجن 120 عاماً. واتهم المدعي العام الإيراني المتشدد، محمد جعفر منتظري، الإيرانيين الداعمين للشيرازي بأنَّهم "مجموعة في قُم تنشط بإيران منذ سنوات"، وذلك في محاولةٍ لتقليص عدد رجال الدين وغيرهم ممن يدعمون وجهات نظر الشيرازي.
معاناة التوازن بين الضعف واستعداء الجمهور
وبحسب المقال، فإن التذرع بهذه الحجة أصبح أكثر صعوبة في ظل انتشار الاحتجاجات. وتوجد الآن تقاريرٌ غير مؤكدة تفيد بأنَّ السلطات الإيرانية أطلقت سراح الشيرازي يوم 18 مارس/آذار 2018، أي بعد أسبوعين من اعتقاله. وإن صحَّت تلك التقارير، فإنَّ الحكم الثقيل ورد الفعل اللاحق له يوضحان معاناة الجمهورية الإسلامية من أجل إحداث التوازن بين الشعور المتنامي بالضعف والخشية من استعداء جمهور رجال الدين، الذين تستمد منهم شرعيتها في نهاية المطاف.
الشيرازيون ليسوا أول قادة دينيين بارزين يشككون في سلطة المرشد الأعلى الإلهية. ففي عام 1999، أجريتُ مقابلةٌ مع آية الله حسين علي منتظري، الذي قضى سنواتٍ عديدة تحت الإقامة الجبرية، قبل وفاته في عام 2009.
وعبَّر منتظري عن وجهات النظر التي لا يزال الكثير من رجال الدين الذين يُشكِّلون الآن جزءاً من الحركة الاحتجاجية، يتمسكون بها، فقال في رسالة: "المرشد الأعلى ليست لديه السلطة للتصرف بصورةٍ منفردة أو استبدادية. لا يمكن أبداً أن يكون فوق القانون، ولا يمكنه التدخُّل في الشؤون كافة، خصوصاً تلك التي تقع خارج نطاق خبرته، مثل القضايا الاقتصادية المعقدة، أو مسائل السياسة الخارجية، أو العلاقات الدولية".
ومع ذلك، فعل خامنئي في سنواته الثلاثين تقريباً التي قضاها بمنصب المرشد الأعلى، كل شيءٍ تحدّث عنه منتظري. والآن مع اقتراب حكمه من نهايته، هناك دعمٌ متزايد في صفوف كبار رجال الدين الشيعة لفكرة أنَّ المنصب يجب أن يموت معه.