مدُ يد المساعدة دائماً فكرة جيدة

لقد أصبحت مشاهد الخراب تطغى في الأفق، تُظهر مناظر مهولة من الدمار قل مثيله، بعيدة الصلة تماماً عن صورة البلد كما كان قبل الحرب، وقبل الدمار.

عربي بوست
تم النشر: 2018/03/19 الساعة 11:55 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/03/19 الساعة 11:55 بتوقيت غرينتش

لقد دمرت الحرب الأهلية السورية هذا البلد، على مدى السنوات السبع الماضية، ومن فرط شراسة منظر الدمار الذي قضى على هذا البلد، أصبح من الصعب جداً تصديق أن سوريا كانت يوماً بلداً جميلاً.

لقد عاش في سوريا قبل الحرب 23 مليون شخص، أما الآن نصف عدد السكان اضطروا إلى النزوح، من بينهم 5 ملايين يعيشون خارج البلاد لاجئين و6 ملايين آخرين نزحوا داخل البلاد، وفوق كل ذلك، فقدَ ما يقرب من 500 ألف شخص حياتهم وأصيب عدد مماثل بجروح، والكثير منهم بإعاقات دائمة.

لقد أصبحت مشاهد الخراب تطغى في الأفق، تُظهر مناظر مهولة من الدمار قل مثيله، بعيدة الصلة تماماً عن صورة البلد كما كان قبل الحرب، وقبل الدمار.

عندما بدأ المدنيون، بدافع اليأس، يفرُّون للنجاة بحياتهم، فتحت الدول الأربع، المجاورة لسوريا، وهي تركيا ولبنان والأردن والعراق، أبوابها لاستقبالهم بسخاء رغم الصعوبات الاقتصادية التي تعانيها تلك الدول. ويعيش حالياً نحو 3.5 مليون سوري في تركيا وحدها، مما يمثل أكبر عدد من السكان السوريين خارج سوريا نفسها.

إن ما قامت به تركيا كان عملاً هائلاً، وبطبيعة الحال لم يكن من دون تحديات وتبعات، لكن النتائج كانت تستحق العناء وجديرة بالثناء. تضم حالياً مخيمات اللاجئين في تركيا -المنتشرة في جميع أنحاء البلاد، والتي أشاد بها عدة زعماء، مثل رئيس الاتحاد الأوروبي دونالد تاسك؛ لما تتميز به من مستوى رفيع- ما يقارب 250 ألف لاجئ، وتوفر مجاناً الإقامة والغذاء والتعليم وخدمات الرعاية الصحية.

ومع ذلك، اختار معظم السوريين العيش في المدن عبر تركيا، وكان من الطبيعي أن يسبب ذلك بعض الصعوبات. وإذا كان بوسع بعض اللاجئين استئجار منازل، فإن آخرين اضطروا إلى افتراش الأرض؛ نظراً إلى ظروفهم الصعبة.

وعلى الرغم من هذه المشاكل، تمكنت التطورات الإيجابية من السيطرة على الجوانب السلبية، وقد ساهم عزم تركيا والتزامها بمساعدة اللاجئين، في ضمان الاندماج السليم للسوريين في المجتمع التركي، من ذلك، بدء الحكومة على سبيل المثال، منح الجنسية للاجئين، وأصبح حتى الآن 12 ألف سوري مواطنين أتراكاً.

وبالإضافة إلى ذلك، يحق للسوريين الذين يعيشون خارج المخيمات، الحصول على رعاية طبية مجانية في مستشفيات الدولة بعد إكمالِهم عملية التسجيل، وبفضل "حالة الحماية المؤقتة" التي يحظون بها، لا يتعرضون لخطر الترحيل. ووفقاً لتصريح وزير التعليم التركي، فإن ما يقرب من 600 ألف طفل سوري التحقوا بالمدارس التركية ويدرسون الآن مع أقرانهم الأتراك.

وكان الرئيس أردوغان قد أعلن مؤخراً، أنه سيتم بناء منازل جديدة للسوريين، حيث لن يكونوا مضطرين إلى العيش في مدن الخيام أو مخيمات اللاجئين. ومن أجل تغطية هذه المشاريع لفائدة اللاجئين، أنفقت تركيا بالفعل 30 مليار دولار أميركي.

لكن، لا بد من الاعتراف بأن الأمور ليست كلها على ما يرام، وقد أثارت بعضها ضيقاً وحرجاً كبيرَين لغالبية الأتراك، وتسبب هذا السخاء في بعض الأحيان بإثارة غضب البعض.

وحتى لو كانوا مجرد أقلية، فإن بعض الأتراك قد عبّروا عن استيائهم مما تمنحه دولتهم للاجئين السوريين؛ بل حاولت بعض الدوائر نشر معلومات مضللة وتوجيه اتهامات ملتهبة تهدف إلى إثارة غضب الأتراك ضد المواطنين السوريين، لكن هذه المحاولات باءت كلها بالفشل، ونجحت الشرطة التركية في إحباط هذه المحاولات الإجرامية.

بالطبع، لا يمكن إنكار وقوع حالات تورَّط فيها لاجئون سوريون في جرائم، لكن أبان الأتراك عن فهم واسع، وتعقُّل حصَّنهم من مغبة اتهام المجتمع برمته، على جرائم اقترفتها أقلية منهم.

ويجب ألا يغيب عن إدراكنا، أن مرتكِب الجريمة هو فقط المسؤول عن جريمته، ولا يخلو أي مجتمع من العناصر المنحرفة، مثلهم مثل آلاف الأشخاص من كل جنسية، الذين يقبعون في سجون العالم، بعد ارتكابهم أعمالاً مماثلة. وبعبارة أخرى، نقول: أجل، كانت هناك مشاكل، لكننا سنتجاوزها.

واليوم، يعيش الأتراك في سعادة مع ضيوفهم السوريين، الذين أثبتوا أنهم أصدقاء في حاجة إلى مساعدة. وبطبيعة الحال، قد ساعد ديننا المشترك وتاريخنا المشترك، وكذلك أوجه التشابه بثقافتنا وتقاليدنا، في تسهيل مثل هذا التعايش بين الشعبين.

ونتيجة لذلك، فقد أعاد العديد من السوريين بناء حياة جديدة وناجحة، على غرار مازن المظلوم، (37 عاماً)، الذي فتح مخبزه في إزمير، ويبيع الآن مرطبات دمشق الشهيرة إلى مُستضيفيه الأتراك. ويدرس نسيب دادان، (22 عاماً)، الهندسة المعمارية مع 15000 من زملائه السوريين في الجامعات التركية. وهيني إيبو، وهو مدرّس سابق في سوريا، يُدَرّس الآن بمدرسة تركية في مدينة الفاتح، وهذه مجرد عينة تضم أمثلة قليلة من جملة الآلاف من قصص التكامل الناجح.

وفي الوقت الذي يريد فيه بعض السوريين انتهاء الحرب لبلادهم ليتمكنوا من العودة إلى ديارهم، يرغب الكثيرون منهم في البقاء بتركيا، وستترُك لهم تركيا المجال ليقرروا بأنفسهم. وفي هذا الصدد، تكتسي عملية عفرين المتواصلة في سوريا أهمية بالغة، ومن المعلوم أن تركيا تواجه عمليات إرهابية على طول حدودها مع سوريا، من خلال الهجمات التي تشنها باستمرارٍ، الجماعات الإرهابية "PKK / PYD / YPG" ضد تركيا وتقتل المدنيين والجنود، باستخدامها عفرين كقاعدة تنطلق منها. من أجل إنهاء هذه الحركات الإرهابية، شن الجيش التركي حملة عسكرية لتطهير المنطقة من الإرهابيين.

وقبل بدء العملية، قال الرئيس أردوغان إن أحد أهداف هذه العملية هو إنشاء منطقة آمنة بسوريا؛ لتسهيل عودة السوريين إذا رغبوا في ذلك، وبعد تطهير جميع البلدات والقرى من الإرهابيين ونجاح الجيش التركي في تأمين المنطقة لشعب سوريا، يمكن للسوريين في تركيا العودة إلى ديارهم والاستمرار في حياتهم هناك إذا رغبوا في ذلك.

ومن الجدير بالذكر أن لبنان والأردن والعراق هي أيضاً دول فقيرة، ورغم ذلك لم تكن أقل سخاءً ولم تدِر ظهرها أو تطرد هؤلاء اللاجئين عندما كانوا في أمسّ الحاجة إلى المساعدة.

لم يغب عن إدراكنا يوماً في تركيا، أن ضيوفنا سيحضرون ببركاتهم، وقد شهدنا ذلك بأم أعيننا، ورغم التداعيات المالية المترتبة على استضافة 3.5 مليون شخص، أصبحت تركيا اليوم أقوى من ذي قبل.

وعكس التوقعات القاتمة، لم يقع الاقتصاد التركي، ولم يحدث انفجار اجتماعي بسبب الغضب المشتعل، ولم يقع انقسام مرير بسبب قدوم السوريين وإنشائهم مجتمعات جديدة مختلفة؛ بل العكس هو الذي حصل، كل شيء أصبح أفضل الآن.

في واقع الأمر، شهد الاقتصاد التركي معدل نمو اقتصادي مرتفعاً، بلغ نسبة 11.1٪ في الربع الثالث من عام 2017، وأصبح أسرع بلد نمواً في مجموعة العشرين، وهذا مؤشر مهم على قوتها الاقتصادية، خاصة بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في عام 2016. وفضلاً عن ذلك، أصبحت تركيا الآن لاعباً إقليمياً أقوى، من خلال تحالفها المتجدد والأقوى مع روسيا وإيران.

لقد قدمت تركيا مساعدتها وهي تدرك كامل الإدراك ما قد ينجم عنها من آثار سلبية، وكان من المحتمل جداً أن يعاني اقتصادها كثيراً، لكن مع ذلك قبِلت تركيا هذا الاحتمال، وقبِلت التحدي، وفي نهاية المطاف لم تتضرر جراء مساعدتها اللاجئين السوريين.

وبذلك، أظهر المثال التركي أن مساعدة الآخرين على حساب مصالحه الخاصة لا يؤدي بالضرورة إلى نتائج سلبية. وثبت مرة أخرى أن مساعدة الغير في وقت الحاجة، حتى لو كان ذلك يعني المخاطرة بالمصالح الخاصة، يشكّل دائماً فكرة جيدة تستحق الأخذ بها.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات عربي بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد