في مشهد ساخر لأحد الأفلام المصرية ينبهر صاحب شركة الإنتاج السينمائي بالطريقة المبتكرة التي فكر فيها مساعده "وديع" للتهرب من الضرائب التي فرضتها عليه الحكومة عبر إعلان إفلاسه؛ ليتهرب من دفعها، وصرخ بعبارته الشهيرة وهو في قمة السعادة "أيوه كده يا وديع".
لم أجد مشهداً أفضل منه يعبر عن حالة مصر، التي ابتليت بنظام انقلابي يطبق حرفياً مصطلح "انقلاب" في كل أرجاء الدولة المصرية، وأصبح هناك "وديع" في كل مؤسسات الدولة وسلطاتها الثلاث "قضائية وتنفيذية وتشريعية"، ناهيك عن "الإعلام" الذي يجد مخرجاً وتبريراً لكل القرارات "المصائب والكوارث" التي يتخذها نظام السيسي.
انقلب مفهوم "السيادة الوطنية"، فأصبح التنازل عن الأرض "العرض" هو قمة الوطنية، وخائن وعميل ويستحق التنكيل به بشتى الطرق من يعترض وينادي بأن "تيران" و"صنافير" مصرية، بل وتتصدر هذا المشهد المخزي والمهين المؤسسة العسكرية التي أقسم منتسبوها جميعاً بالذود عن كل ذرة تراب وحبة رمل من أرض مصر، رغم أن تدويل مضيق تيران يضرب الاستراتيجية العسكرية المصرية والأمن القومي العربي في الصميم، بل وصل الأمر بإحدى قنوات التلفزة الموالية للانقلاب أن تطرح استفتاء للشعب المصري حول ما إذا كان يوافق على بيع الآثار المصرية لتسديد ديون الدولة.
انقلب مفهوم "النمو" و"الاستقرار" الاقتصادي، فأصبحت الاستدانة من كل حدب وصوب هي قمة الذكاء والاستراتيجية المثلى للنهوض بالاقتصاد، وكيف لا وحكومة الانقلاب الرشيدة لم تترك دولةً أو كياناً إلا واستدانت منه، بدءاً من البنك الدولي مروراً بالخليج وأوروبا، وحتى الصين وبلاد الواق واق وبلاد تركب الأفيال، وصولاً لحلق زينب وتحويشة "سبيلة" وحصالة حفيدتها، ودخول الجيش وسيطرته على معظم النشاط الاقتصادي والتجاري بطريق مباشر أو غير مباشر، وأصبح ينتج كل شيء إلا الأسلحة طبعاً، فمصر والحمد لله ترتيبها ثاني أكبر دولة في العالم استيراداً للأسلحة بما مقداره 12 مليار دولار، في الوقت الذي انخفضت قيمة العملة المحلية وارتفعت ديون مصر الخارجية إلى 67 مليار دولار يصاحبها تراجع الدخل القومي بصورة ملحوظة، وسط مؤشرات مخيفة ومرعبة لارتفاع الدين العام.
انقلب مفهوم "الأمن القومي" فأصبح التنسيق وتبادل المعلومات بل والدخول في تحالف مع الكيان الصهيوني وأميركا والغرب وحصار قطاع غزة والتنازل عن حصة مصر في مياه النيل واتفاقية سد النهضة وترسيم الحدود البحرية وضياع حقول غاز المتوسط والتدخل العسكري في ليبيا بالوكالة من صميم الأمن القومي المصري، وصمام الأمان للسلام الدافئ، كما صرح السيسي بنفسه مراراً وتكراراً.
انقلب مفهوم "العدالة الاجتماعية" فأصبح غلاء أسعار كل المستلزمات الأساسية من مأكل وملبس ومشرب ودواء وخدمات أساسية كالتعليم والطاقة يصب في مصلحة المواطن "الفقير والمحدود الدخل"، متزامنةً مع زيادة واستحداث أنواع من الضرائب لم نسمع بها حتى في جمهورية "حنكوشيا الوسطى"، ولكي تكتمل العدالة لا بد من خفض المرتبات للجميع، عدا "الهيئات السيادية والمحاسيب"، بل قامت حكومة الانقلاب باختراع مسميات عبقرية لمنحهم المزيد من الحوافز والعلاوات، أما الفقراء والمعدمون فلهم قول واحد "مفيش ومش قادر أديك" و"هتاكلوا مصر يعني"؟
انقلب مفهوم "الدين والتدين"، فبدلاً من أن يتصدر المشهد الدعاة والأئمة من أهل الثقة والكفاءة تصدره الفنانون ومشايخ "النص كم" ومن يدعون أنهم دعاة إصلاح وتجديد وأكاديميون، لم نرَ شهادة تؤهل أي منهم لهذا ولا حتى "شهادة تطعيم"! وأحدث تلك المهازل هو قيام "راقصة" بالتجهيز لبرنامج ديني في شهر رمضان الفضيل في مشهد لم يتخيله أو يحلم به حتى أعتى أعداء الدين الإسلامي.
انقلب مفهوم "الحريات وحقوق الإنسان" فأصبح اعتقال كل صاحب رأي مناوئاً للانقلاب أو معارضاً للنظام، وهم فئتان مختلفتان تماماً، هو الأمر الطبيعي، فأنت حر فيما تقول والنظام حر في اعتقالك والتنكيل بك والزج بك في غياهب السجون والمعتقلات بتهم مضحكة على شاكلة نشر المناخ التشاؤمي أو نية التظاهر أو من غير تهمة من الأساس! واحتلت مصر السيسي المركز الثالث عالمياً في عدد الصحفيين المعتقلين وتصدر اسم مصر كل قائمة تضم أسوأ الدول في قمع الحريات وانتهاك حقوق الإنسان بينما تتذيلها في قوائم أخرى كالشفافية ومكافحة الفساد والصحة والتعليم والاقتصاد والأمن.
انقلب مفهوم الأمن والأمان" فالإرهاب الذي كان محتملاً أصبح واقعاً مؤكداً يعاني منه الشعب المصري، خاصة أهلنا في "سيناء"، وازدياد مروع في معدل الجرائم بمختلف أنواعها والكثير منها نجد المتهمين فيها رجال شرطة وقضاة وقوات مسلحة ودخل الجيش في معركة مجهولة النتائج مع جماعات مسلحة كان هو السبب الأساسي في نشأتها وتواجدها ونموها عبر الإجراءات القمعية وسياسة التهجير والتفجير التي انتهجها، خصوصاً في "شمال سيناء"، وداخلياً أصبحت التفجيرات المتوالية بمثابة طوق النجاة لسلطة الانقلاب للترويج للمصطلح الذي لا يمل "السيسي" من تكراره وترديده أينما حل أو ارتحل ألا وهو "محاربة الإرهاب"، متناسياً أن هذا الترديد والتكرار بمثابة تحذير وجرس إنذار لأي مستثمر بألا يقترب من "مصر"، فالبلد يحارب الإرهاب ويعاني منه.
انقلب مفهوم "الحكم والفصل بين سلطات الدولة الثلاث" فالواقع الآن يثبت أن السيسي يسيطر بمفرده على كافة سلطات الدولة، فهو رأس السلطة التنفيذية في دولة برلمانها لم يرفض حتى الآن أي قرار أصدرته الحكومة ووافق عليها جميعاً وسلطة قضائية "تم ذبحها حرفياً من خلال قانون التعديلات القضائية الذي وافق عليه البرلمان منذ عدة أيام"، تصدر إحداها حكماً مخالفاً لأهواء النظام فتعاجلها المحكمة الأخرى بإلغائه ويذهبون جميعاً في النهاية إلى المحكمة الدستورية العليا التي لها حق الفصل في تنازع الاختصاصات بين جهات القضاء "المحكمة الدستورية التي تولى رئيسها السابق "عدلي منصور" رئاسة البلاد عقب انقلاب 3 يوليو 2013″.
لقد وصل الانقلاب بالدولة المصرية إلى مرحلة تنذر بأنها في المستقبل القريب قد تضطر لبيع أصولها للوفاء بالديون المستحقة عليها، قد يتهمني البعض بالمبالغة والتشاؤم، لكن كل المؤشرات والدلائل والدراسات تؤدي إلى هذه النتيجة في دولة أصبحت أسهل طريقة لتسديد ديونها هي نظرية "اتنازل وبيع يا وديع".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.