صمتتُ كثيراً أمام أقسى الصور التي وردت في الإعلام عن أحوال ساكني الغوطة الشرقية في سوريا المعذبة، أو ربما يحق لنا أن نقول إنها حلب أخرى، بذات التدمير والفقد الذي عاشته، وبذات الإجرام الذي مورس ضدها، صمتّ ليس جهلاً، بل لأن لا كلمات تصف حجم ما هم فيه، ولا حجم اليأس الذي تجذر في قلوبنا أن تنتهي مأساتهم، صمتّ أمام صورة طفلة تحمل شقيقتها الرضيعة وتحاول إنقاذها من الموت، ولكن عبثاً تستطيع، صمتّ أمام والد يبكي عائلته التي أُبيدت بأكملها ويفتش فيهم عن أنفاس قتلها حطام القصف، ولكن عبثاً يجد، صمتّ أمام أم تعتصر ألماً بفقدها لأطفالها أضعاف ألم مخاضهم يوم أن أنجبتهم، وعبثاً تحتمل وجعها، فوجع الفقد شيء لا يُحتمل، صمتّ أمام طفل كان لا يحتاج لأكثر من رصاصة ضعيفة تقتل قلبه الضعيف، ولكنّ الصاروخ ذا الأطنان من المواد المتفجرة يقسم جسده وكأنه كان يحمل كل هذا الحقد على الأطفال السوريين ليفعل بهم ما فعل.
ولكن.. مروراً بمقطع فيديو يظهر فيه طفل سوري فقد تحت القصف عائلته وظل وحيداً، يصرخ بعد أن استيقظ من وجعه في المشفى وهو يردد بيقين لم أرَ له مثيل من قبل: "لا إله إلا الله" ويطلب من الشخص الذي يقف بجانبه أن يقول: لا إله إلا الله؛ ليتأكد أنه مسلم، ويكرر عليه السؤال: "أنا بين إيدين مسلم؟ انت مين؟ احكي لا إله إلا الله، عليّ صوتك واحكي محمد رسول الله"، تكراراً أعدت مشاهدة المقطع لأحاول ولو قليلاً أن أفسّر يقين هذا الطفل وهو يتألم ويظل مردداً نطق الشهادة، أتراه أدرك بعد 8 سنوات من الفاجعة التي تحياها سوريا كل يوم أن الموت أقرب له من العيش الآمِن؟ أتراه بات يدرك يقيناً أن الصاروخ الذي قتل عائلته وجعله بكل هذا اليُتم البشع سيضلّ عنه صاروخ آخر يشبهه ويكون طُعمه في الأيام القادمة، فظل يردد كلمات التوحيد.
تالله يا طفلي، إنك شهيد إذا رحلت والشهداء لا يموتون وإن رحلوا بأجسادهم، تالله يا طفلي أن هذا اليقين الذي يحويه قلبك أخجلنا أمام أي وجع آخر نحن نحياه، تالله يا طفلي إن المسلم الذي تسأل عنه تاه عنك، وضلّ سعيه إليك، وصمت أمام كل قهر تحيونه في سوريا.
تالله يا طفلي إن قلبك الصغير الذي يحوي هذا الكم الهائل من اليقين حُق له الخلود، فدلّني إلى اليقين بالله عليك، أرشدني إلى ترديد كلامك كلما فُجعت بشيء، قُل لي هل كان نصيبك من الألم كافياً لأن يجعلك تشيخ رغم طفولتك؟ هل الدم الذي نزفته أمام مرأى العالم كان كافياً لأن نصفع أنفسنا مراراً ونحن نقول: "سوريا يا الله، الشام يا الله!".
قل لي يا صغيري ما بال العربان غفلوا عن قضيتي وقضيتك، أتدري لماذا أكتب؟ لأني من وطن يحتله أعداء الأمة والدين منذ 70 عاماً، صرخت مثلك قبلك، وصرخ مثلنا كثيرون قبلنا، ولكن ما النتيجة؟ عربان يتخاذلون كل مرة، وضعفاء الحيلة يظنون أن ثمّة ضميراً سيستيقظ يوماً معلناً نصرة مظلوم ومقهور وميّت رغم العيش!
إن أمثالنا يا صغيري وكأن الدنيا كل مرة تقول لنا: لستم أهلي، أنتم أهل الله فارحلوا، هذه الدنيا لمَن ظلم وعلا واعتلى العرش ظلماً وجوراً.
اللهم إن الظالمين علوا في الأرض، فأرنا فيهم ذُلاً وانصر قلب باليقين ناداك وأسلَم لك وبك.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات عربي بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.