في حارة البلد بحي المقهورة استيقظ عم عاقل كالعادة مبكراً وبدأ يسلك طريقه إلى بيت الراحة بخطوات سريعة وطاقة وحماس موسمي يتنافى وحالة الهم والغم التي ترافقه مع كل صباح، لا يكاد الرجل يخرج من الغرفة إلا ويجد نفسه قد داس على يد أحد أبنائه، فأسرّتهم أرضية تجمعها غرفة نوم واحدة.
وفي صمت استيقظت الزوجة الخالة صابرة قُبيل عم عاقل لتحضير وجبة إفطار بما تبقى من طعام في منزلهم، ثم عادت إلى فراشها لترتاح، فلم يتبقّ لبدء يومها سوى ساعتين لا يعرف جسدها الهش وعقلها المشغول دائماً طعم الراحة من واقع أعمال شاقة، سواء تلك التي تتعلق ببيتها وأبنائها أو تجارتها البسيطة وفرشة الطماطم على ناصية الحارة.
تناول الرجل نصف رغيف خبز مدعم وقطعة جبن وما تبقّى من حبة طماطم بعد أن أزال الأجزاء التالفة منها، وانصرف على الفور بخطوات أسرع مما كانت عليه في غرفة نومه، قاصداً قهوة المعلم غلبان (الحياة حلوة) لاحتساء كوب الشاي اليومي الذي يمثل له نقطة انطلاق يومه، وقبل جلوسه على الكرسي نادى على الصبي طاقية:
"كوباية خمسين يا طاقية ع السخان عشان عايز أروح الانتخابات قبل الزحمة الله يكرمك، آديك شوفت امبارح الأستاذ أحمد موسى قال لك هيبقى مولد والملايين كلها هتخرج على كل اللجان".
على الفور وجّه طاقية نداءه لكنافة (عامل الناصبة) بطلب عم عاقل ثم عاد موجهاً سؤاله لعم عاقل:
"انتخابات إيه بالصلاة ع النبي يا عم عاقل، وزحمة إيه اللي انت عايز تروح قبلها! انت لسه عايش ف الوهم؟ وبعدين انت مش محتاج تروح اسمع منّي همّا هيقوموا بالواجب من غير ما حد يلعب ف العشة اسمع منّي".
امتعض عم عاقل من حديث طاقية وبدأ بتوبيخه: "شوف الواد! أقول له انتخابات ومستقبل بلد وريس وهو يقول لي عشة وكلام ما يتلبسش عليه بُلغة".
وفي هذه الأثناء دخل المعلم غلبان القهوة وقطع حديث عم عاقل قائلاً: "يا ابني انت صعبان عليك يعني نكمل يومنا من غير مناهدة ووجع قلب أو أذى ولّا هتفرح لما ييجوا يشمعوا لنا القهوة وعيالك ياكلوا تراب! ميت مرة أقول لك الكلام ده ومفيش فايدة في لسانك".
اعتذر طاقية للمعلم وعاد عم عاقل للمشهد معترضاً، وقال: "خليكوا ماشيين ورا كلام الإخوان والعيال الهيكي ميكي بتوع التيكتوك (الفيسبوك) وبعدين هي دي كوباية شاي ترضي ربنا تتصدع ع الصبح يا معلم غلبان؟ لا ريحة ولا طعم ولا أي حاجة وزاد عليها إنها قربت تختفي من صغرها؟ ومين عالم يمكن تنزلوا لنا الشاي في قطّارات ونشرب بالنقطة!".
رد المعلم غلبان قائلاً: "يا فتّاح يا عليم يا رزاق يا كريم على اليوم اللي مش باين له قبة من ضبة! حد قال لك إن مصنع القزاز بتاع أبويا ولا أنا اللي بعبّي الشاي وبعدين يا عم عاقل أنا لو هعاملكم زي ما بيعاملوني أصحاب محلات الشاي والفحم والكوبايات اللي ماشيين بمبدأ قبّجني تجدني اظرفني تلاقيني مش هتشربوا كوباية ميّة في القهوة تبلّوا بيها ريقكم، الله يسترك خلّي الطابق مستور واشرب كوباية شايك واتوكل على الله روح مطرح ما انت رايح يسترك ربنا والبركة في اللي انت رايح تنتخبه عشان يكمل اللي بدأه من خمس سنين".
ثم وجّه المعلم غلبان كلامه لطاقية قائلاً: "هات يا ابني كوباية سخام (شاي) وحجر قطران (شيشة) خليني أطفحهم يمكن أتدرنح مكاني ما تقومليش قومة وأرتاح من البهايم والبهايم يرتاحوا منّي".
عم عاقل محدثاً المعلم: "خلاص يا معلم انت هتذلنا بالنوتة بتاعتنا عندك ما إحنا بردوا منين ما ربك بيفيض علينا بنفتكرك بحاجة وبعدين هو كل حاجة تقولوا الحكومة الحكومة".
المعلم غلبان: "لا حول ولا قوة إلا بالله أطفش مِ القهوة بتاعتي وأروح أقعد على قهوة المعلم (مايسواش)! مش هعرف أقعد في قهوتي مرتاح مرة من نفسي! يا عم عاقل لا تذلني ولا أذلك يفتحها في وشّك ربنا وتلحق الانتخابات قبل الزحمة!".
عم عاقل للمعلم غلبان: "انت كمان مش هتروح تشارك في العملية الانتخابية وتنتخب الرئيس؟".
المعلم غلبان ضارباً كفاً على كف: "أقول له إيه ده دلوقتي أنا مش فاهم كله منك يا طاقية الكلب تعدم لسانك وما يفضل سنة منه قادر يا كريم!".
عم عاقل محدثاً نفسه بعد أن انتهى من احتساء كوب الشاي: "لا إله إلا الله، المعلم اتجنن رسمي وعايز يروح المورستان، قهوة غم وقعدتها تقصف العمر يتوب علينا ربنا".
أخيراً وصل عم عاقل إلى مقر اللجنة الانتخابية بعد رحلة استغرقت ١٥ دقيقة سيراً على الأقدام، وجد عدداً لا بأس به من الأشخاص أمام باب المدرسة الكائن فيها اللجان، فأسرع للحصول على دور في الطابور غير الواضح.
وبسؤاله عن بداية الطابور ونهايته للاصطفاف أجابه أحد الواقفين بعد أن أدار له وجهه ذا الجروح القطعية في خديه وبصوت يثير الأعصاب ويخيف النفس: "طابور إيه ياعمووووو إحنا هينا لزوم تأمين العملية الانتخابية ومفيش طابور كله بالنوايا والنفس الطيبة ليها الجنة اتفضل يا عمو ادخل انت الاستفتاح بتاعنا ومعاك اتنين تانيين".
على صوت أمين شرطة من داخل فناء المدرسة منادياً مسؤول توجيه الناخبين الذي تحدث مع عم عاقل واتضح أنه يدعى سرنجة: "ياااااض يا سرنجة لسّه بردو محدش جه من الناس اللي خسارة فيها تعيش بفضل كبيرنا"!
رد سرنجة قائلاً: "لا يا باشا استفتحنا بتلاتة داخلينلك أهه ومتعكرش مزاج معاليك انت تأشر وأنا أنزل أنا والرجالة نجيبهم لك في شكاير".
لم يستوعب عم عاقل ما يدور حوله وقسوة ما يراه وتسمعه أذنه وبالكاد استطاع أن يحمل قدمه وكأنها أعمدة خرسانية لا طاقة له على حملها، وتوجه إلى اللجنة بعد فحص بطاقته وإبلاغه بلجنته.
مع وصوله أمام باب اللجنة المفتوح طلب منه أمين شرطة آخر الانتظار حتى ينتهي مَن بالداخل من التصويت، فنظر إلى الداخل بترقب ليعرف كم مواطناً داخل اللجنة وجابت عيناه كل أرجاء اللجنة فلم يجد سوى مقعد خشبي يحيطه ثلاثة أشخاص فقط، وبدا عليهم الانشغال والسرعة في الأداء، ولكن عم عاقل ظن أنه شخص واحد والاثنين الآخرين رئيس اللجنة وأمينها!
استغل عم عاقل فترة الانتظار بالحديث مع الحاجة أم دنيا، أبدى خلاله الثناء على حرصها رغم ما يبدو عليها من ضيق حال بالمشاركة في صناعة مستقبل الوطن، فكان رد الحاجة على وصلة الثناء: "يا أخويا أنا اللي جابني 200 جنيه أسد بيهم جوع عيالي، ما هو أنا وأبوهم ما بنشفش الـ200 جنيه صحيحة غير في الانتخابات أو في التلفزيون ولما بتيجي غير كده بتبقى بمرمطة أسبوع من ليل لليل، ما لناش دعوة إحنا باللي بيحصل عشان مصر خيرها لناسها وإحنا كفاية علينا رضاهم".
كانت قد مرت دقائق عديدة وفي محاولة من عم عاقل لإنهاء الحوار مع الحاجة أم دنيا التي لم ينَلها من اسمها أو لقبها حظ! وبصوت خافت وعلى استحياء سأل عم عاقل أمين الشرطة: "يا باشا بعد إذن حضرتك فاضل كتير!"، فأجاب الأمين بنظرة استعلاء واشمئزاز من عم عاقل وبدأ بالحديث مع من داخل اللجنة: "يا باشا فيه واحد وواحدة هنا ندخلهم ولا إيه؟".
فأجاب مسؤول اللجنة: "انت مش شايفنا شغالين يا بني آدم انت! شوية ودخله من غير رغي ولا دوشة".
مرت دقائق ودخل عم عاقل اللجنة بعد أن تفرق جمع الثلاثة، أحدهم بجوار الصندوق والثاني ممسك بالدفتر، وفحص البطاقة والثالث بيده أوراق الانتخاب.
تسلم عم عاقل ورقة التصويت وتوجه إلى المكان المخصص للتصويت خلف ستارة قماش بتوجيهات ممن أعطاه الورقة، وبالنظر إلى الورقة بدأت تنتابه الحيرة! لا يوجد سوى مرشح واحد وهو المطلوب انتخابه، ولكن الاختلاف يكمن في صفتين فهناك مربع بداخله الرئيس الفيلسوف، والآخر يحتوي على صفة الرئيس الحنين، وراودته فكرة بالإشارة على الصفتين، ولكنها اصطدمت بشك انتابه إذا ما فعل ذلك وقرر الاستعانة بالمسؤولين داخل اللجنة، وبسؤاله أخذ أحدهم الورقة وأشّر عليها كما هو مطلوب ثم أعادها له وطلب منه أن يضعها في الصندوق الشفاف الذي لاحظ عليه عم عاقل امتلاءه بأوراق التصويت، بالرغم من أنه الوحيد في اللجنة، وهنا تذكر مقولة طاقية في حوارهما في الصباح.
توجه بعد ذلك إلى المقعد الخشبي لأخذ بطاقته ووضع إصبعه في الحبر الفسفوري ولكنه لم يجده على المقعد، فسأل المسؤول بصوت يكاد يُسمع نملة: "لو سمحت يا باشا أحط صباعي فين؟"، لم يلفت انتباه الموظف المشغول بالتوقيع في الدفاتر إلا شعوره بنمنمة فنظر إلى عم عاقل بحدة وقال له: "إيه في إيه انت مش خلصت وخدت بطاقتك عايز إيه تاني؟".
فأجاب عم عاقل: "بقول لحضرتك أحط صباعي فين؟".
المسؤول: "نعم؟ صباع؟ انت ما دخلتش قسم شرطة قبل كده ولا إيه؟ ولا شكلك ما جتش الانتخابات اللي فاتت؟".
انتفض عم عاقل خوفاً وانكمش بداخله وقال متعلثماً: "أنا لما جيت انتخابات آخر مرة من ٦ سنين حطّيت صباعي في حبر فسفوري".
المسؤول: "وكمان ما جيتش الانتخابات اللي فاتت! غرامة 500 جنيه!"، عم عاقل: "يا باشا أبوس إيدك ربنا يعلي مراتبك كان نفسي آجي بس كنت بين الحيا والموت أيام الانتخابات اللي فاتت، وبيلفوا بيا ع المستشفيات لأجل مكان فاضي ومحدش من اللي حواليا قال لي إنكم عدلتوا النظام عشان ما بيروحوش الانتخابات، الله لا يسيئك تسامحني ما تشوف المرض".
المسؤول: "عموماً موضوع الحبر الفسفوري ده راح مع اللي راحوا ونصيحة تخليك في حالك عشان ما تحصلهمش، أما بالنسبة للصباع فما تعتلش هَمّ إحنا اللي بنحطه! وانتو كفاية عليكم قوي تحسووا بيه وتشوفوه واقع علشان تعرفوا أن الكبير بيوفي ببرنامجه الانتخابي".
خرج عم عاقل من اللجنة كالذي أصابته طلقات نارية في جسده، ويحاول أن يستجمع ما تبقى من قواه للسير أو الزحف نحو مكان آمن، لقد سيطر عليه -بعد أن أنهكته المواقف – حديث طاقية وأدرك مقاصد الكلمات بقسوة الواقع، وما عايشه في هذا اليوم وواجه نفسه بحقيقة أنه أيضاً لم ينَله من اسمه حظ، واقترب من الحاجة أم دنيا وبصوت خافت قال لها: "ما تسأليش عن الحبر الفسفوري!"، خشية أن تسمع ما سمعه بالداخل.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات عربي بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.