شهد النظام الدولي في بداية التسعينيات من القرن الماضي تحولات عالمية جديدة، تمثلت ببروز نظام دولي جديد تقوده الولايات المتحدة الأميركية، التي سيطرت بدورها على معظم مناطق القوة والنفوذ. ونتيجة لهذا الوضع الدولي الجديد، آثرت روسيا الاتحادية على نفسها الانسحاب من مناطق نفوذها بهدوء حذر، ووجَّه القادة الروس بوصلة السياسة الخارجية نحو الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا؛ من أجل الحصول على الامتيازات الاقتصادية والمالية، لإنقاذ وضعها السياسي والاقتصادي المتأزم، وعندما لم يجدوا ما يطمحون إليه، عادوا ووجَّهوا بوصلة السياسة الخارجية نحو الشرق الأوسط، وبدأت روسيا تبحث عن موطئ قدم جديد في منطقة يعترف العالم أجمع بمدى أهميتها.
انطلاقاً من هذه الرؤية، وجدت روسيا في الثورات العربية ضالتها، فقد كانت مواقف روسيا من الثورات العربية مبنيَّة أساساً على نهج براغماتي بحت، يقيم الوزن لحسابات الربح والخسارة، خصوصاً بعد خشيتها من خسارة حلفاء جدد في المنطقة بعد خسارة نظام صدام حسين في العراق؛ ولذلك أظهرت موسكو التزاماً استراتيجياً واضحاً من نظام بشار الأسد، فهي تدرك جيداً أن الموضوع لا يتعلق فقط بأنظمة سياسية، وإنما الأمر أصبح يتعلق بتغيُّر الخارطة الجيوسياسية للشرق الأوسط، هذا بالإضافة إلى إمكانية انتقال عدوى التداعيات الأمنية في الشرق الأوسط لأراضيها.
إن اصطفاف موسكو إلى جانب النظم السياسية العربية وغير العربية، أظهر تماهياً واضحاً عن الإدارة الأميركية، فلم يقتصر دعمها على الأنظمة "الشمولية"، التي تعاني ضغوطاً غربية واضحة كـالسودان وإيران، وإنما امتدت أيضاً لنظم حليفة للولايات المتحدة الأميركية، كالسعودية وإسرائيل والإمارات العربية المتحدة، بل إنها عقدت شراكات عسكرية واقتصادية وطاقوية ضخمة معها، فعلى ما يبدو فإن الرئيس بوتين يسعى بجهد إلى تغيير قواعد النظام الدولي الذي وُلد بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، والذي أصبحت الولايات المتحدة الأميركية قطبه الأوحد، ويشير الباحث هنا إلى أن القيادة الروسية تعتبر أن الولايات المتحدة الأميركية هي سبب الأزمات الدولية الحالية.
إن روسيا الاتحادية ترى اليوم أن الأداة العسكرية أصبحت الحل الوحيد للمشكلات الدولية، ولعل هذا ما سوَّغ لها الدخول على خط الأزمة السورية تحت ذريعة مكافحة الإرهاب، إلى جانب انغماسها في أوكرانيا، متحدِّيةً بذلك الولايات المتحدة الأميركية والأوروبيين، من خلال ضم شبه جزيرة القرم وتهديد الأمن القومي الأوروبي والأميركي معاً، وقد اتضحت خطورة هذا التهديد باستراتيجية الأمن القومي الأميركي التي أعلنها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في 20 ديسمبر 2017، والذي أفرز مساحة واسعة لروسيا الاتحادية.
ولعل الموقف الروسي المتصلب والمستميت في الدفاع عن نظام بشار الأسد، يأتي في إطار استراتيجية روسية عظمى، قائمة على مبدأ عدم تكرار الأخطاء التي وقعت فيها السياسة الروسية في مرحلة ما بعد الحرب على العراق 2003، فهي على الرغم من تجاوزها الخطوط الحمراء المرسومة لها في الشرق الأوسط، فإنها استطاعت -في ظل التخبط الأميركي خلال إدارة باراك أوباما- أن تفرض واقعاً جديداً بالشرق الأوسط، وأن تؤسس لمرحلة جديدة في السياسة الدولية من خلال مجموعة من المداخل الاستراتيجية كـ(تثبيت الأمر الواقع في سوريا- التحالف مع إيران- شراكات استراتيجية مع تركيا- فتح صفحة جديدة للعلاقات مع مصر- علاقات جيدة مع العراق- وفاق مع إسرائيل- تمدد نحو ليبيا من خلال جهودها الدولية لرفع الحظر المفروض على تصدير الأسلحة لخليفة حفتر- شراكات اقتصادية مع إفريقيا- موطئ قدم جديد في إفريقيا عبر البوابة السودانية).
وهي كلها أمور تؤشر إلى مزيد من الانغماس الروسي في الشرق الأوسط خلال المرحلة المقبلة، فعلى الرغم من المحددات التي قد تحدُّ من فاعلية الدور الروسي في الشرق الأوسط مستقبلاً كـ(الدور الأميركي المتصلب والمرتقب- ضعف الإمكانات المادية الروسية- اتساع نطاق الصراع المسلح في سوريا، خصوصاً مع عمليات عفرين الحالية، وتحوُّلها من حروب بالوكالة إلى حروب مباشرة بين أطرافها الرئيسيين- الخلاف الإيراني السوري الإسرائيلي الأخير، وانعكاسه عليها- تشظي تنظيم داعش وعودته للمناطق القريبة منها، وتحديداً الشيشان وأفغانستان)، إلا أنه وكما هو مؤشر، يبدو أن القيادة الروسية اليوم أكثر خبرةً بالتعامل مع التحديات الدولية الجديدة، لتحفظ -على الأقل- ما تحقق خلال الفترة الماضية.
فالطموحات الدولية لروسيا في عهد بوتين، وعلى الرغم من إمكانية تحقيقها، فإنها تعاني مشكلات بنيوية كبيرة، أهمها التأزم المستمر الذي يعانيه الاقتصاد الروسي، إلى جانب العقوبات الدولية بعد عام 2014، على أثر الأزمة الأوكرانية، إلى جانب افتقارها إلى العناصر الجاذبة للشعوب والدول الأخرى، والحديث هنا عن القوة الناعمة الروسية، التي تعاني فارقاً كبيراً إذا ما تمت مقارنتها مع القوة الناعمة الأميركية، فهي تدرك جيداً هذه المشكلات الكبيرة، ذهاب القيادة الروسية باتجاه وضع الصراعات الكبرى في أوروبا والشرق الأوسط، في إطار اللعبات غير الصفرية، فهي تتجِّنب استفزاز الولايات المتحدة الأميركية وحتى حلفائها في كثير من المناسبات.
إذ امتلكت مروحة واسعة من العلاقات المتناقضة مع الأطراف الدولية والإقليمية، من دون إجبار إحداها على قطع الصلة أو الشراكة مع الولايات المتحدة الأميركية؛ بل عملت على تقديم نماذج سياسية وعسكرية، تجعل الأطراف المتفاعلة معها في حالة تقييم مستمر مع النماذج التي تقدمها الولايات المتحدة الأميركية، ففي مقابل مؤتمرات جنيف التي ترعاها الولايات المتحدة الأميركية، قدمت روسيا الاتحادية قمة سوتشي، وفي مقابل الدعم الأميركي للأكراد وغيرهم من أطراف الصراع في المنطقة، دعمت روسيا إيران وسوريا وغيرها من الأطراف، كما عملت على تحويل الخسارات الأميركية إلى نجاحات لصالحها وهكذا.
فضلاً عن كل ما تقدم، أصبحت روسيا بوتين اليوم، القِبلة التي يتجه إليها كل ذي حاجة، فمنذ عام 2017 وحتى اليوم، شهدت روسيا زيارات مكثفة من قِبل رؤساء تركيا وإيران والسودان وأذربيجان والهند وفلسطين وباكستان، وولي العهد الإماراتي الأمير محمد بن زايد، وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، بالإضافة إلى الزيارة التاريخية التي قام بها الملك سلمان بن عبد العزيز، والتي تعتبر أول زيارة لملك سعودي إلى روسيا، وزيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وغيرها، وهذا ما يؤشر إلى مدى الدور الدولي المحوري الذي بدأت تلعبه روسيا البوتينية، وقدرتها على جمع المتناقضات الدولية والإقليمية.
إن المحاولات الروسية الجديدة ليست من أجل إعادة ترتيب أوراق اللعبة الإقليمية، في مختلف مسارح العالم سياسياً واقتصادياً، وإنما تتحرك من منظور استراتيجي شامل، يتمثل بإعادة إنتاج نظام دولي عادل، تحظى روسيا بمكانة متميزة فيه، وهو ما يُصطلح دائماً على تسميته وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف "نظام ما بعد الغرب".
ومن خلال الإسقاط الاستراتيجي لفرضيات (سيمون سيرفاتي) على الرؤية السياسية الروسية، نجد أن روسيا لطالما انتقدت الولايات المتحدة الأميركية وحلفاءها، بالسعي لإعاقة تشكِّيل هذا النظام، وهو ما يشكل -وفقاً لرؤيتها- استمراراً للفوضى العالمية المعاصرة، من خلال تصاعد تهديدات تنظيم داعش والهجرة غير الشرعية وموجات اللجوء الضخمة التي يعانيها الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى الأزمات المتصاعدة في بحر الصين الجنوبي، والصدام البارد مع الصين، وإلى جانب كل ما تقدم- فإن روسيا بوتين ترى أن الثورات العربية تمثل السيناريو الأبرز لهذه الفوضى المفتعلة على أرض الواقع، وإن التوجه نحو نظام دولي آمن ومستقر، يفضي إلى مواجهتها بكل السبل المتاحة للوصول إليه، وهو ما سيعمل على تحقيقه بوتين بعد انتخابات الرئاسة المقبلة في مارس/آذار 2018.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات عربي بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.