“تاءات” و”عيون”.. في الصراع الفكري!

قبل أن يقوم المستعمر بأي خطوة في الصراع الفكري، لا بد من دراسة شاملة دقيقة للبلاد المستعمرة، خصائص مجتمعها ومميزاته، نقاط ضعفه وقوته، وكل ما يمكن أن يحرك هذا المجتمع أو ينومه!

عربي بوست
تم النشر: 2018/02/19 الساعة 02:47 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/02/19 الساعة 02:47 بتوقيت غرينتش

أما قبل:
هذه المقالة عبارة عن قراءة في كتاب المفكر الجزائري مالك بن نبي (الصراع الفكري في البلاد المستعمرة)، وهي للأمانة أيضاً، تجميع لبعض الأفكار المطروحة خلال جلسة لمناقشته مع نادي "مجتمع الأفكار".

أما بعد:
حاولت في هذه المقالة تلخيص أفكار الكتاب في مجموعة من "التاءات"، وأفكار المُدارسة في مجموعة من "العيون"!

تاء التعرف:
قبل أن يقوم المستعمر بأي خطوة في الصراع الفكري، لا بد من دراسة شاملة دقيقة للبلاد المستعمرة، خصائص مجتمعها ومميزاته، نقاط ضعفه وقوته، وكل ما يمكن أن يحرك هذا المجتمع أو ينومه!

تاء التجسيد:
في مجتمع نائم، تائه في غياهب الخرافات، يحدث أن تستجد فكرة تحاول إيقاظه، فيحاول المستعمر إقصاءها بكل الطرق، ولو أن الفكرة أصبحت مجردة لا تزول بتصفية الشخص، يضطر المستعمر إلى تجسيد تلك الفكرة في شخص المفكر، وتشويه صورة هذا المفكر وضربه بمجموعة من التهم، وبما أن المجتمع لم يكتمل وعيه بعد، فينفر من المفكر بجميع أفكاره، ولن يستطيع الفصل بين المفكر كشخص وبين الفكرة كفكرة!

تاء التجميد:
أمام تكتّل مجموعة من الأفراد يحملون فكرة مستجدة، يلجأ المستعمر إلى طريقة التجميد التي تطبق في جبهة القتال لتشتيت وتجميد قوى الآخر في نقطة معينة، وذلك بخلق مجموعة من الصراعات الهامشية التي تشتته وتنهكه، ولن يتقدم بذلك خطوة أخرى في صراعه ضد المصارع الحقيقي، تماماً كما المصارعة الإسبانية، إذ يلوح المصارع بقطعة قماش أحمر أمام ثور هائج، فيزداد هيجانه بذلك، فبدلاً من أن يهجم على المصارع يستمر في الهجوم على المنديل الأحمر حتى تنهك قواه.

تاء التوجيه:
لا تختلف كثيراً عن الأسلوب السابق؛ إذ يحاول المستعمر من خلال هذا الأسلوب توجيه المعركة من "صراع بين مفكر يدافع عن قضية ومستعمر"، إلى "صراع بين المفكر وهيئات وطنية تزعم بأنها تمثل نفس القضية"!

تاء التجديد:
قد تجدي الأساليب لمدة طويلة من الزمن، ولكن الظروف بعدها قد تتغير؛ لذا يتابع الاستعمار عمله بتجديد خططه دوماً وحسب الظروف، مرة بتغيير الأسلوب تغييراً كلياً، ومرة بتعديل جزئيٍ فيه، كلّ حسب المعلومات التي ترد من الدوائر المختصة في التاء الأولى "التعرف"!

طيب، في وجه طوفان هذه التاءات، لا بد من سفينة: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا بأعيننا!.. أعين!.. ويكأني أقرأها في هذا الموقف.. عين.. عيون!

عين الـ(عِـ)ـلة:
البداية، في البداية جداً، كما مع "تاء التعرف"، يبدأ الأمر بالتعرف أيضاً، ولكن قبل الآخر، التعرف على ذواتنا بدءاً بالتعرف على جوهر مشكلتنا، أو التعرف على عين العلة، ونتساءل خلالها:
لمَ نحن؟ ولمَ هم؟ ولمَ يتجه السهم دوماً منهم إلينا؟
بما أننا لسنا في مستوى الصراع، لمَ يصر العدو على الكيد لنا؟
رغم خمولنا ونومنا، هل يصارعنا على شيء أو أشياء نملكها ونعي بعد أهميتها؟
ما هو / هي؟!

عين المُصَارِ(عْ):
مَن هو عدونا الحقيقي اليوم؟ ما هي طبيعته؟ ما هي أسلحته؟ ما هي أهدافه؟
لما قَرَنَ مالك بن نبي الشيطان بالمستعمر في أكثر من موضع، هل هو مجرد تشبيه، أم أنه يرى الشيطان متجسداً فيما يحدث من صراع عبر ولي من أوليائه مصداقاً للآية: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.

مهلاً لحظة، يبدو هذا الكلام كبيراً ومبالغاً فيه، ويكأننا نحوم حول نظرية المؤامرة!

طيب، لنفرض أن كل ما يحدث لنا هو مؤامرة! -بحكم أننا نحب هذه الشماعة كثيراً!- ولنسأل أنفسنا: هل التآمر علينا هو سبب ضعفنا، أم أن ضعفنا هو سبب التآمر علينا؟!

قال عز من قائل: {وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفاً} وقال في المقابل: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً}.

يبدو أن هناك تكافؤاً ما، فكيف أتخذ الشيطان وأولياءه أعداء؟!
يقول -عز وجل- في موضع ثالث: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ}!
ما طبيعة هذه القوة يا ترى؟ أيمكن أن يكون الوعي مظهراً من مظاهر القوة؟!

عين الو(عْـ)ـي:
الوعي ليس مرحلة، الوعي يبدأ من البداية، من العين الأولى "عين العلة"، من كل الأسئلة السابقة وما يليها، والوعي ليس هدفاً يتحقق بالوصول إلى إجابات عن تلك الأسئلة، الوعي وسيلة تستعمل خلال كل ذلك، وما بعده!

الوعي بالمسؤولية والوعي بالاستطاعة، أن يعي المرء مسؤوليته كلها تجاه هذا الصراع، مسؤوليته الشخصية، الشخصية جداً، وأنه لحكمته -عز وجل- لم يوجدك وسط هذا الصراع إلا لاستطاعتك وقدرتك على فعل شيء ما، مصداقاً للفهم الصحيح لقوله تعالى: {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا}!

الوعي بتحري "النقطة المثلى للحل"، للجواب الأمثل، للموقع الأصوب، للخطوة الأنجع، شيء ما يشبه تحريك مفتاح الراديو يميناً وشمالاً، نصف دورة، أو انقص منها قليلاً، أو زِد عليها.. بحثاً عن التردد الذي تبث عبره موجات "القول الثقيل"!

تاء في عين الوعي هي "التأهيل": ليكون هناك صراع، لا بد من وجود طرفين في نفس مستوى الثقل!
فكيف نرفع مستوانا لمستوى الصراع مع الآخر؟

يقول الصحابة رضوان الله عليهم: (كان رسول الله يفرغنا ثم يملأنا)، ترى كيف كان يفعل ذلك صلوات ربي وسلامه عليه؟ كيف يمكننا أن نفعل ذلك اليوم؟ كيف يمكننا التخلص من كل تلك الأفكار الميتة والمميتة وكل تلك العُقد التي تسكننا؟ كيف يمكننا إزاحة صخور القابلية للاستعمار وللتقديس الجاثمة فوق صدورنا؟!
وبعد التخلية، بماذا نمتلئ؟
كيف يجب أن أكون بعد ذلك؟
أين أنا منه الآن؟
وما الطريقة والطريق الذي أتبعه للوصول إلى ما يجب كونه؟
وهل سأمضي في هذا الطريق وحدي؟.. وماذا وسع رجل واحد أن يفعل؟
لا بد من جمع.. جموع.. أليست (يد الله مع الجماعة)؟!
عين الجما(عَـ)ـة:
يذكر الدكتور محمد بابا عمي في كتابه: "العلم والعالم": (المطلوب هو بناء "تجمعات علمية وفكرية راقية، من خلال جماعات علمية متماسكة، فعصر العالم الواحد، والجهد الواحد، والفكر الواحد، والفعل الواحد قد ولّى إلى الأبد، وحلّ حله التناسق والتناغم والتفاعل والتكامل، بناء على منهج "واعتصموا" ومنطق "ولا تنازعوا").

هي هكذا، أن تتجمع الأفكار المتفرقة، في فكرة، وتنقح الفكرة بالفكرة، وتتجسد تلك الأفكار -بدرجة أُولى وأَولى- في مختبرات بحث، نوادٍ علمية ومراكز دراسات.

تُخرِجُ "عيون" أخرى: عين العمق، عين المعنى، عين العقل.. بكل ما يقود دوماً وبدءاً لفهم عين العلة!
وتُنتِجُ "تاءات" لها: تاء التقييم، التقويم، التجديد، التصويب، التأصيل، وبما يقود ختاماً إلى تاء التمكين!

مهلاً لحظة، أنقصد أبراجاً عاجية أخرى؟!

عين الواقـ(ـعْ):
يقول الدكتور أحمد خيري العمري في رائعته القرآن لفجر آخر: (الأمر المهم هنا، هو أن سيدنا موسى، عندما طلب العلم، لم يذهب مع الفتى إلى صومعة معزولة في قمة جبل ليتعلم على يديه، ولم يذهب إلى خزانة الكتب والمخطوطات ولطائف علوم الأولين والآخرين، لا لم يكن العلم الذي أراده سيدنا موسى الاستزادة منه هناك؛ لذا فإن العبد الصالح لم يأخذه إلى خزانة الكتب، بل نزل معه إلى الواقع.. إلى الشارع إن شئتم.. والفرق بين خزانة الكتب والشارع هو الفرق بين الغاية والوسيلة.. هو نفسه الفرق بين الألواح الحجرية ثابتة وصلبة.. وبين واقع متغير ومرن!).

إذن، أن تنطلق هذه الجماعات من الواقع وتصب فيه، وتتفاعل خلال ذلك معه، بصفة مستمرة ودائمة.. أن تحافظ على خصوصيته وتركيبته بل أن تعمل وفق ذلك.. وتتغير مع تغيره.
ألا يصبح بهذا، الواقع هو المنهج؟!

عين المَـ(ـعِـ)ين:
طيب، لنفترض أن لدينا ثلاث مركبات: واقع معاش (حالة ابتدائية)، وواقع يراد الوصول إليه (غاية)، وطريق يوصل إليه (وسيلة).

هذا الطريق يبدأ بطرح مجموعة من الأسئلة الصحيحة، ثم البحث عن أجوبة صحيحة، تجيب عن تلك الأسئلة الصحيحة وتصب في قلب الغاية!

طيب، ما موقع المنهج من هذا كله؟
المنهج هو المعين (القرآن) الذي يكون حاضراً في كل ما سبق، هو الذي تستمد منه الأسئلة صحتها، وتؤصل فيه الإجابات ثوابتها، وتحدد فيه الغايات معالمها.

عين الـ(ـعُـ)ـمر:
كل هذا جميل، ولكن، ماذا عسى أن يفعل فردٌ (أو جمع) متوسط عمره 60 أو 70 عاماً في صراع قد يدوم قروناً؟!

عندما أنام الله فتية الكهف 300 سنة وازدادوا تسعاً، ثم أفاقهم، أفاقهم ليريهم نتيجة عملهم قبل كل هذه المدة، وليرينا نحن أن ما نقوم به اليوم قد لا نرى أثره في عمرنا القصير، ولكن نتيجته ستكون.. وستُرى في زمن آخر!

فكل ما تقوم به في عمرك هو مجرد نقطة انعطاف بسيط في دالّة الزمن، فقط فلنجعل ذلك الانعطاف صوب الجهة الصواب!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد