فيما بات يعرف في روسيا بـ"الاستفتاء" على شعبية الرئيس فلاديمير بوتين، وبعد مداولات طويلة في الشارع الروسي حول نية بوتين الترشّح للانتخابات من عدمه، أظهرت الأيام بما لا يدع مجالاً للشك، أن أروقة صنع القرار في الكرملين، أو على الأحرى ما يمكن تسميتهم "الحرس القديم" أو بالروسية (سيلوفيكي)، وهم قدامى جهاز "كي جي بي" المسيطرون على الجيش وباقي الأجهزة الأمنية المهمة، سيستمرون في إدارة الدولة بذات النهج البوتيني، وأن فرص ظهور روسيا جديدة كما يتمنّى جيل الشباب باتت ضرباً من الخيال.
بوتين الذي تقدم بأوراق ترشحه للجنة الانتخابات المركزية "الفيدرالية الروسية" كمرشح "مستقل" بات على مقربة من صنع تاريخ روسيا الحديث بتوالي إشغاله لمنصب الرئاسة لأربع فترات رئاسية، إن اكتملت الانتخابات "الصورية" المرتقبة وتوّجته رئيساً للبلاد.
وعلى غير العادة فقد قبلت لجنة الانتخابات أوراق الصحفية المثيرة للجدل كسينيا سوبتشاك للرئاسيات، التي حظيت الأشهر الأخيرة بحملة دعائية كبيرة قامت بها المعارَضة الروسية في محاولة للاستقطاب الجماهيري فيما تقول إنها فرصة قد لا تكون قوية، ولكنها على الأقل ستشعر نظام الدولة البوتينية بالهزة قليلاً.
يراهن بوتين وخلفه دوائر صنع القرار الدبلوماسية والأمنية على قاعدته الشعبية العريضة والمترامية الأطراف (المحاربون القدامى وأبناؤهم وأحفادهم، أعضاء الحزب الشيوعي السابقون وعوائلهم، أنصار الفكرة الستالينية واللينينية الشمولية، مؤيدو روسيا القوية والعظمى -كما يسمونها-) ذلك أن بوتين بأدائه قد كسب قلوب وعقول الملايين، بعدما أعاد روسيا إلى تموضعها الطبيعي في ساحة التوازنات الدولية، وأنعش اقتصاد البلاد وفتح الأفق البعيدة أمام الصناعات الروسية المختلفة، وهذا بالتحديد ما يكرر ترديده بوتين في العديد من لقاءاته وجولاته إلى مدن الداخل الروسي، فيوم في قازان، وآخر في أوفا، وآخر في يكاتيرينبرغ وسوتشي وتفيرغ وخاكاسيا..إلخ، الرجل لا يهدأ ولا يكلّ وهو يسابق الزمن قُبيل الرئاسيات في محاولة منه لإقناع المواطن الروسي أن الرئيس يسهر ويواصل الليل بالنهار للحفاظ على مقدرات البلاد الاقتصادية، ويواظب على زيارات مكوكية شرقاً وغرباً إلى المصانع الثقيلة والشركات الضخمة.
في المقابل، تقف المعارَضة الروسية وأحزابها عاجزة أمام تغوّل القبضة الأمنية البوليسية للدولة في شتى مناحي الحياة؛ حيث لا تتاح الفرصة بالمطلق لأي تقدّم أو إنجاز يذكر في خدمة الشعب الروسي أو حتى مجرد اتصال حقيقي يمس واقع الحياة داخل الأسرة الروسية، الذي إن تم على مدار سنوات متراكمة كان سيُحدث فارقاً ولو قليلاً أمام حسابات الدولة الكبيرة.
أما دور رجال الأعمال الكبار فيمكننا أن نصنفه أنه يقع داخل دائرة الضوء؛ حيث لا يسمح لأحد بالإبحار بعيداً عن التيار الذي ترسمه الدولة لهم، وفيما إن اعتقد أحدهم بذكائه وفطنته بالتحايل على الدولة سريعاً ما تفتح الملفات السوداء له ويصبح مصيره ومستقبله رهن أوامر قضائية صارمة وموجعة.
المعارَضة الروسية التي فقدت أهم قادتها بعد أن اغتيل بطريقة درامية على مقربة من الكرملين (بوريس نيمتسوف) الذي عُرف عنه معارضته الشديدة لضم "شبه جزيرة القرم" إلى الكيان الفيدرالي الروسي، كانت حتى وقت قريب تفتقد إلى العناصر المؤثرة والقوية، وعلى الرغم من وجود وجوه فاعلة وذات ثقل نوعي على الساحة السياسية، فإن تشويه السمعة والملاحقات القانونية التي تعرضوا لها على مدار سنوات مضت جعلت الشارع الروسي ينفر ولو مؤقتاً من المعارضة.
وفيما يلي أبرز الشخصيات المعارضة: – أندري بيونتكوفسكي: صحفي وكاتب راديكالي عرف عنه عداؤه الشديد لسياسة بوتين في الحكم، تمت ملاحقته بتهم مثل التطرف وإثارة الرأي العام، هاجر على أثرها خارج روسيا.
– ميخائيل خودركوفسكي: كانت سمَّته -شبيغل- الألمانية "زعيم البترول"، رجل الأعمال وأغنى رجل في روسيا قبل إيداعه السجن لعشرة سنوات بتهم تتعلق بالفساد والابتزاز المالي والرشوة، كان في 2007 وطوال فترة سجنه وحتى بعد الإفراج عنه -بعفو رئاسي من بوتين نفسه بوساطة ألمانية- يمثل هاجساً كبيراً لبوتين وفريقه، والذي يتخذ من برلين عاصمة لنشاطه العام بعد أن أخذ قراره بعدم الولوج للعبة السياسية بعد الإفراج عنه شتاء عام 2013.
– أليكسي نافالني: محامٍ وناشط سياسي روسي، وعضو مجلس تنسيقية المعارضة الروسية، عرف عنه نشاطه في انتقاد الفساد ودعوته لتنظيم مظاهرات حاشدة ضد نظام الرئيس بوتين، لكنه هو الآخر سرعان ما لاحقته التهم بالفساد حتى أدانته محكمة في مدينة كيروف عام 2013 بالسرقة بدوافع سياسية وعاقبته بالسجن 5 سنوات وتغريمه نصف مليون روبل، تلك المحاكمة قال عنها رئيس الاتحاد السوفييتي السابق ميخائيل غورباتشوف إن "استخدام القضاء في الخلاف ضد خصوم سياسيين غير مقبول"، وقال: "إن مجمل القضية تؤكد مع الأسف أنه ليس لدينا قضاء مستقل".
– فلاديمير ريجكوف: معارض سياسي ورجل دولة روسي، شغل مناصب رفيعة داخل مجلس الدوما، ولكنه انتقل لصفوف المعارضة بعد حادثة أثّرت فيه عام 2005 عندما كان يحاول التحدث مع قوات مكافحة الشغب لتجنب تصادمها مع بعض المحتجين والمتظاهرين من كبار السن والمتقاعدين والنساء، لكنه فوجئ بهجوم وحشي ومباغت من الأمن لتفريق التجمع، بادر بالانضمام للحزب الجمهوري الروسي، وقرر حينها تفعيل الحزب وممارسة نشاطه كنائب عن حزب رسمي، إلا أن الحزب قد تم حله بقرار فيدرالي بحجة أن الحزب لا يمتثل للقانون الروسي، انضم للمعارضة وعرف عنه عداؤه الشخصي لبوتين، وشارك في تنسيقية المعارضة الروسية وكان يرفض نتائج ما سمّاه "تزويراً" للانتخابات الرئاسية في 2012م، التحق مؤخراً بحزب "التفاحة"؛ حيث يعد أحد أبرز أحزاب المعارضة الروسية.
– فلاديمير ميلوف: معارض سياسي روسي واقتصادي معروف، عمل سابقاً مساعداً لوزير الطاقة الروسي 2002، عُرف عنه نشاطه الاقتصادي ودراساته التحليلية والإحصائية، ويعد خبيراً بمجال الطاقة، انتقد بشدة المسار الديمقراطي للتنمية في البلاد ونادى بإجراءات عاجلة للإصلاحات الاقتصادية، لكنه قوبل بالتهميش ما جعله ينضم لصفوف المعارضة السياسية وينشط في المظاهرات والمؤتمرات الداعية لتنحية بوتين ونظامه عن الحكم. منذ مايو 2017 أنشأ ميلوف قناة على اليوتيوب يعرض فيها برنامجاً بعنوان: (أين المال؟) يتناول فيه واقع الحياة الاقتصادي في روسيا من وجهة نظر الخبير المعارض.
– غينادي غودكوف: رجل دولة وعقيد متقاعد من جهاز الأمن الروسي، سياسي ومعارض لسياسات بوتين، وجَّه انتقادات عديدة لصلاحيات رئيس الدولة الممتدة، وطالب بتطبيق نظام الجمهورية البرلمانية للحد من تدخّل الرئيس في جميع مناحي الحياة السياسية، كما انتقد بنية السلطة الروسية الحديثة، ودعا إلى إدارة الاتحاد الروسي بأسلوب الملكية المطلقة كما كان في القرن الثامن عشر، في 2012 صوّت مجلس الدوما على سحب عضويته البرلمانية بسبب ما سُمي بممارسة أعمال تجارية غير مشروعة وغسل الأموال في خارج البلاد.
من خلال الاستعراض السريع للحالة السياسية المعارضة للرئيس بوتين، يتبين أن الاتحاد الفيدرالي الروسي يسير بخطى مرسومة بسياسة تتسم بالاعتيادية على الصعيد الداخلي والخارجي؛ حيث لا تغيير في سياسات الكرملين.
وهذا بالتحديد نتيجة ما تساءلته صحيفة (Neatkarigas Rita Avize) الصادرة في ريغا عن جدوى إجراء انتخابات بدون انتخابات؛ حيث لا منافس حقيقي ليجعل من الانتخابات الروسية ذات معنى، وختم الصحفي بينس لاتكوفسكيس مقالته باقتباس للصحفي الروسي ألكسي فينيدكتوف؛ حيث يقول: "النخبة الروسية تخاف من أي ثورة، ولكنها تفعل كل شيء لكي تتخمر، الانتخابات دون خيارات حقيقية تسهم فقط في نضوج حالة الثورة".
فهل سنشهد ربيعاً روسياً على غرار ربيع العرب الذي لا يزال ملطخاً بالدم حتى الساعة؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.