الأهم في عملية غصن الزيتون في عفرين على الحدود التركية – السورية هو قطع اليد الأميركية في واحدة من أهم مناطق تمركز "وحدة حماية الشعب الكردية"، في شمال غرب سوريا؛ حيث تسعى الولايات المتحدة إلى إنشاء نواة جيش من ذوي الولاء لها من أكراد سوريا، يلتحم بقوات حزب العمال الكردستاني في العراق، وصولاً إلى الخطوة الأولى نحو إقامة "كردستان الكبرى" بإشراف أميركي صهيوني، وبإدارة أحزاب وفصائل كردية علمانية، وذات ولاء للصهاينة والأميركان ، ورغماً عن غالبية الأكراد.
ومن هنا فإن الحملة التركية الأخيرة على ميليشيات "وحدة حماية الشعب الكردية" تمثل مواجهة غير مباشرة مع العبث الأميركي على الحدود التركية، في موجة جديدة من التهديد الأميركي لأمن واستقرار تركيا، من دعم محاولة انقلاب الخامس عشر من يوليو/تموز 2016 م، ثم دعم محاولة "انقلاب الدولار" لزلزلة العملة التركية، ثم أخيراً اللف من عند الحدود لإنشاء جيش عميل في جنوب غربي تركيا (وحدة حماية الشعب الكردية )، وقد باءت كل تلك المحاولات بالفشل الذريع.
وفي هذه المرة لن تتوقف حملة تركيا العسكرية في "عفرين" حتى تقتلع – فيما يبدو – بذرة ذلك الجيش الوليد وتقضي على فكرته في مهده، لكن محاولات التنغيص والتهديد الأميركي ضد تركيا لن تتوقف بعد أن صارت رقماً صعباً في المعادلة الدولية، وصارت نموذجاً للاستقلال ومقاومة قوى الاستعمار ومقارعة الغرب في شتى مجالات النهضة، والأهم أنها باتت قاطرة للشعوب العربية والإسلامية نحو اقتحام طريق الانعتاق والتحرر من الهيمنة والاستحواذ الاستعماري الحديث، كما باتت نموذجاً مشجعاً على الانطلاق على طريق النهضة بجسارة ودون تردد.
أعود إلى الحملة العسكرية التركية في منطقة "عفرين"؛ حيث أعلن مؤخراً أن أميركا تعد جيشاً قوامه ثلاثون ألفاً من الأكراد في سوريا بزعم مقاومة داعش، والحقيقة أنه جيش لحماية كيان انفصالي يمثل الخطوة العملية الأولى لتقسيم الأراضي السورية، خاصة أنه سبق ذلك في 17 مارس/آذار 2016 إعلان إنشاء نظام فيدرالي بمناطق وجود الأكراد شمالي سوريا، وهو ما يُغري ويشجع حزب العمال الكردستاني المتواجد في تركيا على خطوة مماثلة، وبذلك يتم إسقاط دول المنطقة (سوريا – تركيا – العراق – إيران) التي يتواجد بها أكراد في أتون التقسيم الذي يتطور حتماً إلى الاحتراب الداخلي مع الحكومات المركزية، بما يؤدي إلي إضعاف هذه الدول جميعاً، وهو أمر في صالح قوى الاستعمار الحديث (الأميركي – الصهيوني – الروسي).
ولذلك سارعت تركيا التي تعتبر وحدة حماية الشعوب منظمة إرهابية، ولا تختلف عن حزب العمال الكردستاني المتعاون معها، لوأد تلك المحاولة.
الضحية هنا هم غالبية الأكراد في المنطقة التي يصل تعدادها إلى ما يقرب من 32 مليون نسمة (تركيا 15 مليوناً – العراق 5 ونصف مليون – إيران 10 ملايين – سوريا ما يقرب من 2 مليون) وهم مسلمون سنة، ولا علاقة لهم بتشكيل مثل تلك الميليشيات، لكن التيارات الشيوعية والعلمانية ذات الولاء للأميركان والصهاينة تتحكم في إدارة شؤونه.
وغنيّ عن البيان فإن التاريخ يشهد على مآسٍ كابدها الأكراد منذ القدم كأقليات محرومة من أبسط حقوق المواطنة في الدول التي ينتشرون بها، لكن التاريخ يشهد أنه منذ تسلّم حزب العدالة والتنمية التركي الحكم في تركيا عقب فوزه في الانتخابات البرلمانية عام 2002م، ومنذ بات رجب طيب أردوغان على رأس السلطة في البلاد (رئيساً للوزراء أو رئيساً للبلاد)، فقد قام بتنفيذ خارطة طريق مكثفة أعاد فيها للأكراد حقوق المواطنة، وبات المواطن التركي الكردي يتمتع بحقوق المواطنين الاجتماعية والسياسية، وبات من حق المواطن الكردي التحدث بلغته والتعبير عن ثقافته، كما أصبح لأكراد تركيا حزب سياسي خاص بهم هو حزب "الشعوب الديمقراطية" والذي نافس في الانتخابات البرلمانية وحصل على مقاعد، وأصبح ضلعاً مهماً ضمن المعادلة السياسية، لكن ذلك الحزب خسر نفسه وسقط في كبوة خطيرة عندما اهتز موقفه من الانقلاب العسكري الفاشل، فغاب عن مشهد احتفاء الشعب التركي كله بشتى قواه السياسية، وسيظل هذا الموقف محفوراً في التاريخ التركي.
وكان من الأولى بهذا الحزب الذي يعبر عن قاعدة عريضة من أكراد تركيا أن يقابل اكتساب تلك الحقوق وهذه المواقف بالإيجابية من حكومة العدالة والتنمية بالامتنان والتقدم خطوات متقدمة في مجال وحدة الشعب التركي وتقوية صفوفه.
في الموقف من سوريا، لا يستطيع أحد أن يزايد على الموقف والدور التركي، فمنذ اندلاع الثورة السورية ومواجهتها بحرب إبادة للشعب من قِبَل النظام السوري بدعم من روسيا وإيران وحزب الله، كانت تركيا وحدها بين كل الأطراف التي يمثل تدخلها لصالح تأمين وحماية الشعب السوري، فهي تستضيف على أراضيها أكثر من ثلاثة ملايين مشرد يتمتعون برعاية واستضافة الدولة، كما أن عملياتها العسكرية على حدودها مع سورية لم تطَل سوى المنظمات الإرهابية مثل داعش ووحدة حماية الشعب الكردية، وقد نجحت في تأمين مساحة على حدودها في داخل الأراضي السورية، وأعادت إليها أكثر من ستمائة ألف إلى ديارهم بعد تأمينها، كما أن عمليتها في عفرين تحقق مزيداً من المناطق الآمنة داخل الأراضي السورية، وبالتالي إعادة مزيد من اللاجئين إلى ديارهم.
ذلك في الوقت الذي تقاعس فيه العالم، وخاصة الغرب (أميركا وأوروبا)، عن التعاون مع تركيا في إيواء اللاجئين أو توفير ملاذات آمنة داخل سوريا للفارين من جحيم الإبادة؛ لأن الجميع بمن فيهم النظام حرص على تحقيق مصالحه أولاً حتى ولو كان المقابل مزيداً من إبادة وتشريد الشعب السوري.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.