ثورات وليست ربيعاً

كما أن الثوار أنفسهم يتحملون قسطاً كبيراً من مسؤولية فشل ثورتهم، فقد كانوا فى البداية متوحدين ومجتمعين على نفس الأهداف على الرغم من الاختلاف فيما بينهم في الأيديولوجيات والرؤى، إلا أنهم عندما شعروا بانتصارهم في البداية اختلفوا وتناحروا وانقسموا إلى ليبراليين ويساريين فخسروا جميعاً.

عربي بوست
تم النشر: 2018/02/03 الساعة 01:31 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/02/03 الساعة 01:31 بتوقيت غرينتش

في عام 1848 اندلعت في قارة أوروبا ثورات شعبية هائلة أطلق عليها المؤرخون اسم ثورات ربيع الشعوب.

وقد كانت هذه الثورات تحمل أهدافاً نبيلة، وقامت بها الشعوب الأوروبية؛ لأنها لم تكن راضية عن الوضع العام في ذلك الوقت.

فقد أصابت الدول الأوروبية في تلك الفترة حالة من الجمود السياسي والاجتماعي، بينما مرحلة الثورة الصناعية كانت قد بدأت بالفعل.

والمفاجئ في ثورات 1848 أن شرارة البدء كانت من بلد صغير جداً، وهو جزيرة صقلية الإيطالية، حين استطاعت في يناير/كانون الثاني عام 1848 القيام بثورة على حكم أسرة البوربون، وأسست دولة استمرت 16 شهراً، ووضعت خلالها دستوراً رائعاً، شملت هذه الثورات 50 بلداً مختلفاً دون تنسيق فيما بينها، انتشرت الثورات في هذه البلاد كما تنتشر النار في الهشيم من فرنسا إلى ألمانيا إلى المجر إلى الدنمارك إلى بولندا، حتى إن روح هذه الثورة قد وصلت إلى البرازيل، في العالم الجديد حقق الثوار في بداية الأمر نجاحات ساحقة، واستطاعوا في معظم الأحوال الإمساك بزمام الأمور.

ولكن لم يكَد عام 1849 أن ينصرم إلا وقد استعادت قوى النظام القديم والثورة المضادة سلطانها مرة أخرى، وتمكنت من بسط نفوذها بالكامل على أرجاء البلاد، وكأن أمراً لم يكن، ذلك أن الملوك عندما قبلوا بطلبات الثوار إنما كان لكسب الوقت وتنظيم الصفوف.

فقد أخذوا في إثارة النعرات القومية عند الأقليات، خاصة في البلاد التي تحتوي على أعراق مختلفة كما في حالة المجر.

كما أن القوة العسكرية حافظت على ولائها للملوك، ورفضت النظام الجديد، والثوار لم تكن عندهم قوة عسكرية يدافعون بها عن أنفسهم، خصوصاً عندما يتعرضون لغزو خارجي، وهكذا انهار الحلم الألماني عندما احتلت جيوش الدنمارك بعض الأراضي الألمانية، ورفض ملك بروسيا التدخل لحماية هذه الأراضي، فأدرك المثقفون والمفكرون والأساتذة المجتمعون في البرلمان في فرانكفورت أنهم لا حول لهم ولا قوة.

كما أن الثوار أنفسهم يتحملون قسطاً كبيراً من مسؤولية فشل ثورتهم، فقد كانوا فى البداية متوحدين ومجتمعين على نفس الأهداف على الرغم من الاختلاف فيما بينهم في الأيديولوجيات والرؤى، إلا أنهم عندما شعروا بانتصارهم في البداية اختلفوا وتناحروا وانقسموا إلى ليبراليين ويساريين فخسروا جميعاً.

لكن الثورة كموج البحر ترتفع ثم تتراجع ثم تعود من جديد، فإن كانت الرياح عاتية ومواتية انطلقت بقوة لتحطّم كل ما تجد في طريقها، فالثورات لا تفشل؛ لأنها وإن لم تنجح حين تعود من جديد تكون أقسى وأصلب وكما البركان المنطفئ فانه حين ينفجر يخرج نيرانه دون سابق إنذار.

ومن الخطأ تسميتها بالربيع، فالربيع قصير، والثورة الحقيقية كبيرة، وتأخذ وقتاً طويلاً، وفي عالمنا العربي الذي يعيش على وقع مرحلة جديدة تجتاحه ثورات شعبية، ثورات تحمل مطالب متعددة، بدءاً بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية، وصولاً إلى الإصلاحات السياسية، ثورات كسرت حاجز الخوف ورسخت ثقافة سياسية جديدة، نظم لم يكن أشد المتفائلين يتوقع لوقت قريب أن تقدم أدنى تنازلات لصالح شعوبها.

الثورة إفراز لواقع اجتماعي يختلف من مجتمع إلى آخر؛ لذلك لا يمكن الجزم بأسباب محددة بعينها تتوفر في كل الثورات؛ لأن كل ثورة هي وليدة سياق معين، فتتعدد الأسباب بتعدد الظروف.

ومنذ القدم شغلت الثورة الفلاسفة والمفكرين وبحثوا عن أبرز عواملها، فيعتقد أرسطو في مؤلفه الشهير "السياسة" أن أسباب قيام الثورة تعود إلى عدم المساواة، ويرجع أسبابها إلى الشعور بعدم الرضا عن الوضع القائم، وقد اعتبرها العلة العامة التي تهيئ النفوس للثورة.

وهناك من يحصر أسباب الثورة في العوامل الاقتصادية، ومن أبرز المنادين بهذا نجد سان سيمون وماركس؛ إذ يرى سان سيمون أن التطور التاريخي للجماعات البشرية هو صراع دائم بين الطبقات الاقتصادية في المجتمع بين من يملكون ومَن لا يملكون، أما ماركس فيعتقد أن جميع الثورات مهما اختلفت أشكالها ذات طبيعة واحدة، فالثورة بحسبه مرحلة طبيعية وحتمية في حياة المجتمعات.

ولا يمكن حصر الثورة في أسباب اقتصادية فقط، فعلماء النفس يؤكدون أن هناك عوامل نفسية تهيّئ الأذهان للثورة مثل انتشار الظلم في المجتمع، إضافة إلى الظلم الاجتماعي الناتج عن استئثار قلة من الناس بخيرات البلاد، ونظام الحكم العبودي الذي يؤدي إلى الكبت والقهر، مما يجعل الشعب يعيش حالة الخوف الدائم، ويؤدي به في الأخير إلى الانفجار في وجه هذا الواقع، ولعل الأسباب متعددة وتتقاطع فيها العديد من الثورات، وهذا ما أثبتته الثورات المتنامية في الوطن العربي ككرة الثلج بسبب الظلم الواقع على الشعوب، وعقود القهر المتوالية، إضافة إلى فشل قيام الدولة الوطنية المرتكزة على المواطنة، وبسبب سيطرة نخبة على مقدرات الشعوب، مما أدخلها في موجات من التخلف والفقر زاده الظلم والاستبداد من استبداد سياسي واجتماعي واقتصادي. ومن ثَم فالأسباب عديدة ومتنوعة، وتختلف باختلاف السياق الزماني والمكاني وبتباين البناء الاجتماعي.

أسباب الثورة الفرنسية مجموعة عوامل تراكمت وأدت إلى انطلاقتها، النظام السياسي والمتمثل بالحكم الملكي المطلق المستبد، وغياب العدالة الاجتماعية، وعوامل فكرية واقتصادية واجتماعية وسياسية متداخلة ما زالت محل جدل بين المؤرخين.

بعد حرب السنوات السبع وحرب الاستقلال الأميركية، كانت الحكومة الفرنسية غارقة في الديون، وحاولت استعادة وضعها المالي من خلال خطط ضرائب لم تحظَ بشعبية بين العامة.

أيضاً سنوات من القحط سبقت الثورة أثارت استياء شعبياً على الامتيازات التي يتمتع بها رجال الدين والطبقة الأرستقراطية.

صيغت مطالب التغيير من خلال أفكار تنويرية وساهمت في انعقاد مؤتمر الجمعية العامة في مايو/أيار 1789 السنة الأولى من الثورة رأت سيطرة الجمعية العامة واقتحام سجن الباستيل في يوليو/تموز، وإمرار إعلان حقوق الإنسان والمواطن في أغسطس/آب ومسيرة النساء إلى قصر فرساي التي أجبرت البلاط الملكي على الرجوع إلى باريس في أكتوبر/تشرين الأول.

أهم حدث في المرحلة الأولى من الثورة حصل في أغسطس/آب 1789 حيث ألغي نظام الإقطاع والقواعد والامتيازات القديمة التي خلفها حكم أترافي.

خلال السنوات القليلة التالية ظهرت صراعات سياسية بين مختلف التجمعات الليبرالية وأنصار الجناح اليميني الموالي للنظام الملكي الذين حاولوا إحباط إصلاحات رئيسية.

تم الإعلان عن قيام الجمهورية في سبتمبر/أيلول 1792 بعد الانتصار الفرنسي في معركة فالمي، تم إلغاء الملَكية، وإعلان الجمهورية الفرنسية الأولى "النظام الجمهوري" في سبتمبر 1792، ثم أُعدم الملك لويس السادس عشر في العام التالي، أي عام 1793، أعلنت الجمهورية بعد ثلاث سنوات من قيام الثورة شهدت البلاد خلالها اضطرابات كبيرة، وصراعات بين الثوار أنفسهم، وبين الثوار والنظام الملكي، الذي انتصر في هذه الجولة وفي عام 1799 وصل نابليون الأول إلى السلطة، وأعقب ذلك إعادة النظام الملكي تحت إمرته وعودة الاستقرار إلى فرنسا.

إن الثورات الحقيقية هي التي تنبع من جذور المجتمع وتحدث تغيرات وإن كانت فجائية، إلا أنها عميقة التأثير؛ حيث كان المجتمع الفرنسي على استعداد تام لتقبّل الأفكار الثورية بعدما يئس المصلحون من إمكانية الإصلاح السياسي من داخل النظام القديم، فدعوا إلى تغييره ثورياً.

كانت ظروف الثورة ناضجة بعد سلسلة طويلة من حركات الاحتجاج التي قامت بها المعارضة الفرنسية ومهدت الطريق لإنجاحها. وهي استفادت من مقولات عصر الأنوار ذات الطابع الإنساني لتبلور شعارات المساواة، والحرية، والإخاء…

إن نجاح الثورة الفرنسية جاء بعد أن حققت ثورة سياسية اجتماعية انعكست على اقتصاد وسياسة البلاد، بالإضافة إلى اتساع انتشار الصحف بشكل كبير جداً، والتي تبنى تأسيسها الثوريون ووجهوا من خلالها الثورة من خلال أفكارهم وأطروحاتهم، الأمر الذي شكّل ثورة في التواصل، الناس كانوا يتبادلون الأفكار ويناقشونها، فضلاً عن دعم الشباب لهذه الثورة، والذي مثل وقوداً محركاً ساهم في استمرارها، فضلاً عن الثورة المعلوماتية التي نشهدها اليوم وما تحدثه من سرعة في نشر الأفكار لا يمكن التحكم فيها ومنعها، هذا الجيل يريد المشاركة ويريد حقوقه، ويريد أن يسمع صوته، التغيير الاجتماعي موجود حالياً على أرض الواقع، الناس أكثر حرية في التحدث عن أنفسهم وما يؤمنون به وما يريدون.

إن الاختلاف ما بين الثورة الفرنسية والثورات العربية هو أن الثورة الفرنسية كان قد سبقها صراع فكري، خصوصاً في علاقة الفرد والدين والسلطة، بعكس ما حدث في الثورات العربية التي انطلقت ثم جاء بعدها الصراع الفكري ولا يزال، ذلك أن الثورة وليدة سياق اجتماعي خاص بكل مجتمع ودولة، إذ لا توجد قوانين ثابتة للثورات فتبقى كل ثورة متفردة عن غيرها من خلال أسبابها وظروفها الخاصة، لكن التاريخ يسير في الطريق الذي دفعت الشعوب ثمناً باهظاً له، وإن تعثرت المسيرة بين الحين والآخر حين تتحول المراحل الانتقالية في حالات إلى ما يشبه "مصيدة"، يصعب الخروج منها دون آلام إضافية.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد