من الأسئلة الجدلية التي تخطر على البال والشبيهة بجدلية "الدجاجة قبل البيضة أم العكس"، من الذي أتى أولاً: الشعب أم الحاكم؟! مع أن الجدلية الأولى ما زالت محيّرةً حتى الآن، فإن الجدلية الأخرى أكثر بساطةً بالنسبة لي، خصوصاً إذا ما تفكرنا في بداية تاريخ البشرية قبل تأسيس النظم الاجتماعية والسياسية التي تحكم حياتها.
من المعروف أن الإنسان خُلق حُراً وكانت عبوديته للآلهة فقط دون ما سواها، ومن الناس من لم يقبل بهذه العبودية حتى! أما الأرض، فكان يستملكها بِحُرية كما هو طعامه الذي يزرعه في أرضه التي يختارها، أو يقرر اصطياد ما يريد حينما يريد.
إلى أن توسعت الأراضي والأملاك وبدأت الخلافات عليها، فكان لا بد من اختيار أشخاص مسؤولين عن حماية هذه الأراضي، يدفع لهم أصحابها ويُسألون إن فرطوا فيها أو لم يحفظوها.
ثم كانت الخلافات داخل الأسر الكبيرة أو القبيلة والتي أدت الى اختيارِ كبير المجموعة ليفصل في المشاكل ويحكم بين المتخاصمين لمصلحتهم، ومن أجل الحفاظ على المجتمع مهما كان حجمه.
وبعد أن كان كل فرد أو أسرة تأكل ما تزرع فقط، جاءت "الثورة الزراعية" وفائض الإنتاج الذي كان لا بد له من أحدٍ ليدير حفظه وتصريفه فيما بعد، فكان يتم اختيار الأفضل لهذه المهمة ليهتم هو بها ولا ينشغل الناس عن أعمالهم وإنجازهم؛ بل وكانوا يدفعون لهذا الشخص لقاء جهده، ويضعون له قوانين العمل، ويحاسبونه حينما يُخطئ..
بعدها، كانت الحروب وكَبر المجتمع شيئاً فشيئاً ورُسّمَت الحدود وبُنيت الممالك والدول…
إذن، كان الحاكم أو المسؤول يعمل لصالح مجتمعه الذي اختاره ولم يكن له بديل عن ذلك! إنما مع تقدُّم الوقت وتطوّر المجتمعات وطمع أصحاب الأراضي في المزيد، بدأ مفهوم "المسؤول" أو الحاكم يتغيّر، من شخص من الناس، يعمل لدى الناس أو لحسابهم، حريص على ملكهم ومصالحهم، إلى حاكمٍ يأمرهم ويقرر عنهم ويأخذ منهم الضرائب ويفرض عليهم القوانين.. أصبح هو من يحاسبهم بعد أن كانوا يحاسبونه!
تطورت هذه الحالة بسرعة، وبدأت الألقاب الكبيرة تتوالى عليهم "أمير"، "ملك"، "إمبراطور"… إلى غيرها من الألقاب التي "كلّلها فرعون" بقوله "أنا ربكم الأعلى"، بات الرجل يعتبر نفسه إلهاً! كما يظن كثيرٌ من الحكام أنفسهم وإن لم يعلنوها بهذه الجرأة!
وما لبث النظام الاجتماعي أن تطور بعد قرونٍ من الاستعباد، وابتكر انظمةً تختار فيها الشعوب من يحكمها ويُيَسر شؤونها، وتراقبه وتحاسبه عبر أفرادٍ منتخبين أيضاً منها، شبيهة بما كانت عليه في البدء، وأوصلت المجتمعات المتحضرة شباباً إلى الحكم واختاروا أفضل ما عندهم ليرتقوا بأوطانهم، وكانت النتائج في الغالب مذهلة والتجارب رائدة، كما شاهدنا نماذج لإسقاط رؤساء واستبدالهم بكل سلاسة.
إلا أن كثيراً من الحكام -خصوصاً في الدول النامية- عادوا قروناً إلى الوراء وأبوا إلا التسلط والاستكبار والاستعباد، وإن أبقوا على بعض الديكور العصري؛ كالانتخابات الصورية أو الاستفتاءات المبنيَّة على قوانين مفصّلة على مقاساتهم هُم وأبنائهم أو المقربين منهم، حتى وصل بهم الحال إلى اختيار المرشحين المحتملين أيضاً وفق هواهم!
والسؤال هنا: ما الذي تغيّر؟! لماذا نتراجع بدل أن نتطور؟! من الذي غيّر مفهوم الحُكم والحاكم على مر العصور؟! من الذي قال إن هذا الشخص بيده كل شيء؟ قرار الحرب والسلم؛ والطعام والجوع؛ والحب والكراهية؛ بل حتى دين الناس واختياراتهم؟!
ما الذي أوصل الحال إلى أن يقتل الحاكم الآلاف من أبناء الوطن أو يسجنهم أو ينفيهم أو يحجر على آرائهم وهم الذين وُلدوا وترعرعوا فيه وقدَّموا له ربما أكثر بكثير مما قدّم ولهم حقٌ فيه تماماً كما له، فقط كي يبقى هو على كرسيّه؟!
أسئلةٌ استنكاريةٌ كثيرة، لا أجد إجاباتٍ لها إلا بأسئلةٍ أخرى!
فلماذا تخلى الشعب عن حقه بالقرار في أرضه، واختيار من يحكمه؟! لماذا قدَّس الشعب حكاماً ورفعهم إلى مقام الآلهة؟! هل الشعب هو السبب فيما وصل إليه مجتمعنا لا الحكام؟! هل نستحق ما نحن فيه فعلاً؟!
يجيب البعض بقولٍ مأثورٍ يريحه: "كما تكونوا يولّى عليكم"، مع أن الواقع خالف كثيراً هذا القول، خصوصاً حينما رأينا شعوباً تخرج بكل شجاعة إلى الشوارع ولا تعود لبيوتها إلا وقد انتزعت الحاكم الظالم أو الفاسد من مكانه، ثم وبعد…
ثم وبعد فترة والشعب ما زال ذاته يحكمهم من كان اسوأ ممن اقتلعوا دون استطاعةٍ منهم لأي تحركٍ او تغيير حقيقي!
المسألة متشعبةٌ جداً خصوصاً اذا ما بحثنا في الاسباب وحاولنا الوصول الى نتائج، انما من حقنا وربما من واجبنا، ان نقف لنفكر بمفهوم الحكم بحد ذاته، وان نحاول تعديله بداخلنا أولاً، بأن الشعب ابن الارض هو صاحب الحق الوحيد باختيار من يحميه ويطوره ويحفظ له حقوقه وحريته! عسى ان نستطيع تغييره على الأرض يوماً
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.