لم يكن التيار اليساري بمختلف اتجاهاته و تشعباته الأيدلوجية صاحب سلطة في يوم من الأيام، فقد اتسم موقفه دائما بالمعارضة منذ نشوءه في مصر و يرجع ذلك لعدم امتلاكه قاعدة شعبية تسانده واعتماد دائما في الظهور على الإضرابات العمالية و التظاهرات الطلابية التي تمس القضايا المعيشية كمظاهرات يناير 1977 على سبيل المثال،إلا أن حركة اليسار السياسية بعد ثورة 25 يناير اتسمت بالمراوغة و عدم ثبات الموقف السياسي،خاصة بعد إنقلاب 3 يوليو على الرئيس محمد مرسي أول رئيس مدني منتخب بعد ثورة يناير 2011.
فقد شارك اليسار بمختلف أفرعه و حركاته و أحزابه و شخصياته العامة و مفكريه في الدعوة لمظاهرات 30 يونيو وإسقاط حكم الرئيس محمد مرسي بعد استنفاذ كل محاولاتهم الدستورية في الدخول الى البرلمان المنتخب ديمقراطيا في 2012 و تشكيل أكثرية ،أو التأثير في وضع دستور 2012 خاصة التأثير في المواد المختلف عليها،و من ثم لجأ اليساريون إلى سلوك التظاهرات و الدعوة الى جمع التوقيعات على استمارات "تمرد" لإسقاط حكم جماعة الإخوان المسلمين ،و من ثم استدعاء الجيش للتدخل لإزاحتهم عن الحكم وهو ما قد تم بالفعل يوم 3 يوليو2013 .
أحاول هنا التركيز على دور التيار اليساري في مصر بعد إنقلاب 2013،من خلال سرد الخط السياسي الذي سار عليه هذا التيار حتى اللحظة مرتكزا على التغير الكبير على الساحة السياسية المصرية من خلال غياب دور فاعلين سياسيين عن الساحة السياسية في مصر.
بدءا حين أقصد التيار اليساري في مصر فهو تيار متعدد الإتجاهات بين ماركسيين و اشتراكيين ثوريين و ناصريين و تقدميين و ديمقراطيين إجتماعيين و ناصريين أيضا، لا تجمعهم وحدة سياسية واحدة كحزب سياسي أو جماعة أو حركة بل يشكل التيار اليساري في مصر عشرات الأحزاب و الحركات السياسية فلا يكاد يجمع الناصريين على سبيل المثال حزبَ الكرامة فقط .
بل يتفرق الناصريون إلى أكثر من حزب و حركة و تيار كالتيار الشعبي و الحزب العربي الناصري الذي يرأسه سامح عاشور نقيب المحامين،و كذلك لا يتفق التيار اليساري "المعروف بكثرة إنقساماته" حتى أنه لم يخض الإنتخابات التشريعية -سواء قبل الإنقلاب أو بعده-من خلال تحالف واحد قد يشكل كتلة تعبر عن التيار كاملا داخل البرلمان و لذلك عُرف عن اليساريين التفرق و كثرة الانقسامات وعدم وجود وحدة سياسية تعبر عنهم جميعا و تصدير بعض النخب السياسية اليسارية لقيادة التيار على رأس عدد من الحركات و الأحزاب.
شارك التيار اليساري بصورة أساسية في الحملة الإعلامية ضد حكم الإخوان المسلمين ممثلا في رئاسة د.مرسي بعدما تبددت آمالهم في الحصول على ثقة الشعب و بدأت الحملات الموجهة ضد الإسلاميين عامة كللّها تدخل القوات المسلحة بالإنقلاب، أثبت اليساريون خلال تلك الفترة خضوعهم الكامل للمؤسسة العسكرية التي أدارت مشهد إسقاط مرسي بجدارة من فتح مقرات الأحزاب و الحركات اليسارية لإستقبال التوقيعات و كذلك الدعم المادي واللوجستي الذي أشرفت عليه المخابرات الحربية و التخطيط لحرق مقرات الإخوان و حزب الحرية و العدالة و الإعتداء على مقر المركز العام بالمقطم الذي كان أبرز المشاركين فيه المرشح اليساري للرئاسة خالد علي.
ظن اليساريون أنهم سيكونون الأيدلوجية التي توجه العسكر نحو تحقيق الأهداف، خاصة و أن المؤسسة العسكرية ليست لها أي طابع "أيدلوجي" فلا هي رأسمالية تشجع اقتصاد السوق و لا هي اشتراكية تشجع سيطرة الدولة على السوق و إدارتها للموارد ،فحاول الكثير من النخب اليسارية اعتبار الإنقلاب العسكري بداية لأدلجة الدولة المصرية لصالحهم،كان أبرزها وصول زياد بهاء الدين لمنصب نائب رئيس الوزراء و الناشط خالد تليمة نائبا لوزير الشباب و هيمنة النخب اليسارية على لجنة الخمسين التي كُلّفت بتعديل الدستور.
خلت الساحة السياسية المصرية بعد الإنقلاب من الفاعلين السياسيين القادرين على قيادة مشهد المعارضة بعد إزاحة الإسلاميين عن الحكم بل و المنافسة السياسية أيضا،أتى فيها العسكر على اليساريين بسنّ قانون التظاهر بعدها اتخذ اليساريون من موقع المعارضة مكانا لهم تم دفعهم فيه لتعويض النقص في المعارضة الهيكلية خاصة بعد غياب جماعة الإخوان المسلمين عن المشهد السياسي و سلوكها لخط عدم الإعتراف النظام القائم من الأساس و التعامل الثوري مع النظام بعد وصفه بالإنقلاب،متزامنا مع عدم دوام الربيع بين التيار اليساري في السلطة و العسكر الذين أرادوا إدارة المشهد بأنفسهم و ليس من خلال أي ظهير مدني حتى و لو كان اليساريون هم هذا الظهيرالمطيع.
بدأ ما يمكن تسميته إنقلاب ناعم من العسكر على اليساريين بسنّ قانون التظاهر ساعتها انقلب اليساريون في مشهد التظاهر الشهير بوسط القاهرة ديسمبر 2013،كنقطة تحوّل في العلاقة بين العسكر و اليساريين بعد الإنقلاب العسكري،يعني هذا أنهم تجاوزا المشهد الذي هزّ الإنسانية "فض رابعة و النهضة و التعامل الوحشي مع التظاهرات السلمية"بسبب توجيهها ضد الإسلاميين فقط! الأمر الذي يستدعي الوقوف عنده للتذكير أن جزء كبير من شرعنة النظام الحالي كانت بسبب تعامل المعارضة غير الإسلامية معه بصفة النظام شرعية الواقع! و هكذا صارت المعارضة غير الإسلامية (الليبرالية و اليسارية الى جانب حزب النور السلفي)جزءا من ترسيخ النظام الحالي لسلطته بإتخاذ معارضة صورية لها خطوط حمراء لا تتعداها بديلا عن الإسلاميين الذين تم صبغهم بالإرهاب و إبعادهم عن المشاركة السياسية قسرا.
استعان العسكر بالنخب اليسارية للترويج لنظامه بنثر بعض المناصب الرسمية و غير الرسمية خاصة الثقافية عليهم خاصة وزارة الثقافة التي أصبحت حكرا على النخب اليسارية كحلمي النمنم و جابر عصفور و غيرهم،بغية التخلص من تغوّل الفكر الإسلامي لدى المواطنين و لمحو الأفكار التي تربطهم بالحركات الإسلامية فبدأت الحملات المنظمة على الأفكار الإسلامية وصلت الى الهجوم على الثوابت و الأصول الإسلامية،ثمة قول بأن هناك إتفاق ضمني بين العسكر و التيار اليساري خاصة للعمل على محو الإسلاميين -العدو اللدود للعسكر- من الحياة السياسية المصرية بل و الحياة الثقافية أيضا فاستخدم التيار اليساري مقدراته الفكرية و نخبه المثقفة للعدوان على كل ما هو إسلامي بدأت بالفوضى الفكرية التي حاولوا تصديرها و الحملات الممنهجة على بعض القضايا الأخلاقية كـ(الحجاب و الميراث و الطعن في السنة النبوية الخ) كان أشدّها الهجوم على مؤسسة الأزهر الشريف و المطالبة بإغلاقه.
ثمة استفادة للتيار اليساري واضحة من وجود العسكر "بلاد أيدلوجية"على سدة الحكم من محاولة نشر أفكارهم التي بدأوها بالقضاء على الأفكار الإسلامية خاصة بعد تراخي حزب النور السلفي في الرد عليهم مخافة إزعاج العسكر "الداعم الأكبر لحملة اليساريين" و عدم وجود ردّ من ذوي الشأن "الإسلاميين"-وهم الخصم الأكبر لليساريين منذ سبعينيات القرن الماضي- بسبب إنشغالهم في المعركة الشرسة بينهم و السلطوية العسكرية،لذلك قاد التيار اليساري حملة شعواء على الأفكار الإسلامية في القنوات الإعلامية و الصحف و وسائل التواصل الإجتماعي وسط تأييد سمته الصمت من جانب العسكريين لإقتناعهم بأن تلك الحملات تساعد في التخلص من الإسلاميين "العدو اللدود".
و لكن يمكن القول بأن هناك بعض المعوقات التي تقف حائلا أمام تمدد التيارات اليسارية في الشارع المصري أهمها ;تبني خطاب فوقي غير مفهوم للعامة و هو ما حاول اليساريون اجتنابه و تبسيط الأمر من خلال قضايا معيشية وهو ما اصطدم بالنظام السلطوي العسكري الذي لا يريد للمواطن الوعي بالقضايا المعيشية ،عدم وجود قاعدة شعبية داعمة للتحركات اليسارية و هو ما أدّى إلى نشوء التحالف الذي يطمئن له العسكر من جهة "لعدم وجود قاعدة شعبية قد تقلق الحكم العسكري" و ما يزال معوقا أمام اليساريين فلا تعدوا قاعدتهم الشعبية بعض النخب و الشباب الذين تم جذبهم من مقاهي وسط البلد على سبيل المثال و نشطاء على مواقع التواصل الإجتماعي و يرجع ذلك إلى كثرة الانقسامات الداخلية التي لم تؤهلهم لوضع استراتيجية تهدف الى تكبير قاعدتهم الشعبية، و قد كان-و لا زال هذا – سببا كبيرا في فشلهم الشعبي و تبديد أي حلم لامتلاك السلطة ديمقراطيا،حيث لم ينجح اليساريون المصريون في أي معركة ديمقراطية خاضوها منذ ثورة يناير 2011م
مسألة ترشح خالد علي و اليسار:
من المعلوم أن خالد علي ناشط و حقوقي يساري سبق أن تم ترشحه للإنتخابات الرئاسية الأولى بعد ثورة يناير في 2012 و التي وُصفت بالأنزه في تاريخ الجمهورية المصرية و لم يحصل حينها على 1% من إجمالي الأصوات الصحيحة،بسبب وجود مرشح يساري "ناصري" آخر هو حمدين صباحي الذي حاز على كمية كبيرة من أصوات اليساريين وقتها و كذلك احتدام الصراع بين الإسلاميين و النظام القديم الأمر الذي همّش من وجودية التيار اليساري أًصلا في الإنتخابات الرئاسية بعد خسارتهم في الإنتخابات البرلمانية بسبب عدم التوافق أيضا،وشهد الأمر سيناريو مختلف مع انتخابات الرئاسة الأولى بعد الإنقلاب العسكري في 2014 بعد لعب حمدين صباحي دور الكومبارس لإضفاء صفة التنافسية على الإنتخابات الرئاسية بعد إقصاء جميع المرشحين.
الأمر الذي يُحاوَل تكراره في هذه الأثناء مع المرشح خالد علي، و لكن ثمة وقفة مع ترشح الناشط الحقوقي اليساري خالد علي بعد أن لمع نجمه بعد تصديه المشرف لإتفاقية ترسيم الحدود مع المملكة العربية السعودية التي تم من خلالها تسليم السيادة على جزيرتي تيران و صنافير للملكة العربية السعودية،و الذي عُدّ بيع للجزيرتين من النظام ،كانت التظاهرات الغاضبة التي سُميّت بـ"مظاهرات الأرض"بداية للمعارضة الحقيقية و بداية خريف يساري مع النظام السلطوي و لذلك يمكن القول أن خالد علي ليس "كومبارس" كدور حمدين صباحي في إنتخابات الرئاسة 2014 بيد أنه ليس مرشحا حقيقيا، فالكثيرون ممن التقيت بهم من أعضاء حملة دعم خالد علي غير مؤمنين بوصوله للسلطة من الأساس و يحاولون جعل الترشح انه تظاهرة سياسية دستورية تهز النظام الحالي متناسين جهود الإسلاميين المضنية في التحذير من مغبة تغلغل النظام و رسوخ أقدامه و إطاحته بالكل!
و لذلك يمكن القول أن التيار اليساري استفاد من ترشح خالد علي للرئاسة خاصة مع ميل عدد من الشباب الإسلامي والليبرالي للاصطفاف خلف المرشح "الثوري" هذا الأمر الذي كان يُعدّ استبدال حقيقي و شرعي لمقعد المعارضة الأول لحساب اليساريين بدلا من الإسلاميين و كان هذا هو المقصد الحقيقي من ترشيح خالد علي للرئاسة قبل انسحابه.
كذلك ظن اليساريون أن المعركة مع الإخوان قد انتهت بإبادة التنظيم و إشغاله بالمعركة الدائرة داخل التنظيم نفسه بعد الإنقسام إلى جبهتين و البون الشاسع بين تصرف القيادات في الخارج و رغبات الشباب في الداخل،فتأهب اليساريون لتمثيل دور "المعارض الأول لنظام الحكم"مستفيدين من خبرتهم الطويلة في صفوف المعارضة و الإنتفاع من عقد الصفقات مع النظام العسكري الحالي بإتاحة المجال الثقافي و الفكري لهم.
خلاصة القول أن التيار اليساري يتمدد في غياب اللاعب المدني الأكبر في الساحة السياسية المصرية "التيارات الإسلامية و على رأسها جماعة الإخوان المسلمين" و ذلك لتعويض الفراغ الكبير الذي خلّفته الجماعة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.