أوجد التدخل العسكري الروسي في سوريا نوعاً من التوازن العسكري بميزان القوى بين جميع الأطراف، بحيث لا يُسمح لأي منها بتحقيق أي انتصارٍ يمكن أن يقلب المعادلة على الأرض السورية، واستطاعت روسيا إعادة مناطق كثيرة بسوريا إلى يد النظام، باستثناء بعض المناطق في شمال شرقي البلاد حتى الآن.
أعلنت روسيا، منذ البداية، أن تدخلها العسكري في سوريا سيكون محدوداً، ولمدة تتراوح بين شهرين و3 شهور، وبعد مضي أكثر من عامين على هذا التدخل، ظهر الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في زيارته القصيرة للقاعدة الجوية الروسية بسوريا، أواخر العام الماضي، وقال، مرةً أخرى، إن الجيش الروسي أنجز مهمته، وسيعود إلى بلاده، وصحيح أن هذا الأمر كان قد تعهَّد به مراراً في السابق، إلا أن التوقيت والدلالات مختلفين هذه المرة.
استفادت روسيا استفادةً كبرى من عدم رغبة الولايات المتحدة في التدخُّل بصراعاتٍ مختلفة في الشرق الأوسط وغياب دور واضح لها في أزماتٍ كثيرة، وخصوصاً سورية، لتُعيد بناء علاقاتها مع عواصم مختلفة في المنطقة، لا سيما الخليجية منها.
وعملت روسيا، بتدخلها العسكري في سوريا، على تحقيق أهداف جيو-استراتيجية، ونجحت -إلى حد كبير- فيها رغم فشلها في تحقيق بعض تلك الأهداف، وجاء قرار إعلان الانسحاب مع اقتراب موعد مؤتمر سوتشي للحوار الوطني السوري، فموسكو ينتظرها دور سياسي مهم، حين يعقد مؤتمر الحوار الوطني السوري، الذي سيضم ممثلين عن المعارضة السورية.
ووفقاً للرؤية الروسية، فإن الحل الوحيد للأزمة السورية يتمثل في تشكيل حكومة جديدة، لإعادة الهدوء إلى البلاد، إلا أن موقع "المونيتور" الأميركي يعتبر تنفيذ تلك الرؤية مع رئيس مثل الأسد أمراً صعباً للغاية، وهنا يجب أن تظهر قدرات موسكو الدبلوماسية في تطبيق رؤيتها.
ورغم التدخل العسكري الروسي القوي في سوريا طوال عامين، فإن روسيا ما زالت تفتقر إلى تفعيل دور سياسي قوي، يناسب حجم تدخلها العسكري، خصوصاً بعد إعلان الانسحاب.
ومن هذه الزاوية، تعاونت موسكو سياسياً وعسكرياً مع دول إقليمية في المنطقة، بهدف دعم موقفها السياسي الضعيف، باعتبار أن شقاً ليس بالقليل من الشعب السوري يعتبرها دولة محتلة؛ لذلك رأينا كيف تعاونت مع الرياض وأثنت على جهودها في تشكيل وفد موحد للمعارضة، يضم جميع المنصات ليشارك بمحادثات جنيف في جولتها الثامنة.
وكذلك عبر محادثات أستانا التي نظمتها موسكو بالتعاون مع تركيا بداية، ثم تم ضم إيران كطرف ضامن بعد جولتها الثالثة (لما تملكه طهران من قوات على الأرض السورية وحتى لا تضع العصي في عجلات أي اتفاق روسي-تركي)، واستطاعت الدول الثلاث تهدئة الوضع في سوريا إلى حد ما، إضافة إلى إنشاء 4 مناطق لخفض التصعيد.
بعد النجاحات "النسبية" لموسكو وشركائها في أستانا، تخطط موسكو لأن يكون مؤتمرها المرتقب في سوتشي، أحد أهم مسارات الحل السياسي، وبديلاً عن كل المنصات التي يلتقي في كل منها مجموعة معارضة، مع فارق أن سوتشي -وفق الرؤية الروسية- ستضم كل الأطراف، المعارِضة منها والمؤيدة.
لكن حتى الآن، لم تتبلور أي صورة حول ماذا يمكن أن ينتج من هذا الحوار، حيث إن اجتماع سوتشي كان فكرة طرحها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بعدها قام أكثر من مسؤول روسي في الخارجية بتوضيح المقصد والأهداف من ورائها.
حتى التسمية أثارت جدلاً عندما تم الحديث عن "شعوب سوريا"، إلى أن وضع حداً لذلك مبعوثُ بوتين الخاص إلى سوريا ألكسندر لافرينتيف، عندما قال إن التسمية الأصح لهذا الاجتماع "مؤتمر الحوار الوطني السوري"، ثم نشر قوائم للجهات المدعوة للحضور على موقع وزارة الخارجية الروسية، لتقوم بحذفها لاحقاً، وهو ما اعتبر سابقة في تاريخ هذه المؤسسة العريقة.
في ظل المتغيرات الدولية والإقليمية، والمتغيرات في الخريطة العسكرية داخل الأراضي السورية، من الصعب الحديث عن خيارات المعارضة؛ لأننا أمام أكثر من معارَضة، وهي تضم منصات، كل واحدة لها أجندة، وبعض أطرافها لا يمثلون أكثر من أنفسهم، إضافة إلى المعارضة العسكرية التي تضم الفصائل، والتي هي صاحبة الكلمة على الأرض، وفي حال اتفاقها مع أي طرف، تجعل المعارضة السياسية أو المنصات خارج اللعبة تماماً.
من المبكر انتظار الشيء الكثير من "سوتشي السوري" سوى أنه منبر حواري ضمن خريطة طريق تمشي فيها روسيا، التي ترى أنها عملت كل ما يلزم عسكرياً للانتقال إلى العمل السياسي، وهنا يجب أن تظهر قدرات موسكو الدبلوماسية في تطبيق رؤيتها، وهذا يجعلها أمام امتحانين:
الأول مدى جديتها بالرغبة في الوصول لحل شامل مستدام، والامتحان الثاني مدى قدرتها على التأثير في الأطراف المحسوبة على موسكو داخل الأرض السورية، وسوتشي التي يجب متابعتها وانتظار نتائجها هي سوتشي التي جمعت قادة روسيا وتركيا وإيران، وستكون لها جولات أخرى.
– تم نشر هذه التدوينة في جريدة الحياة
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.