أضحى الحديث عن دولة "مدنية" في العراق مسألة صعبة لا تخلو من تعقيدات المشهد السياسي الذي اختطف بعيداً عن مفهومي المساواة والمواطنة؛ ليأتي مشروع "قانون الأحوال الشخصية الجديد" بمسودة تخفي انتكاسة للحقوق المدنية، التي كفلها الدستور العراقي، وعند تشريع هذا القانون، سيكون العمل بقانون الأحوال الشخصية العراقي رقم 188 لعام 1959م، ازدواجية من شأنها أن تكون كوميدية، بتشريع قانون مذهبي، يفرق ولا يجمع، ولا يفهم من هذه الصيغة إلا الترسيخ للدولة الدينية والقطيعة الكاملة مع قيم المساواة وحفظ الحقوق، تحت مظلة طائفية بغيضة، وليس كما يتم الترويج له بالمشروع الإنساني والمدني لضمانة العيش المشترك وكفالة الحقوق.
إن تمرير هذا القانون هو تدمير للعراق وعمق حضارته، فالأزمة هنا بلا حدود، إن عقدنا الاجتماعي ينفرط ويتحلل في مدارات وزوايا مظلمة، فعلامات التشريع "المستقبلي" تزدحم بالانهيار والتكلس القاتل، فهو يعيد إنتاج الموت البطيء لحضارتنا، كما أنه لا يراعي العصر، إضافة إلى ما به من اختلالات وتناقضات، وما يضاف إلى ذلك أنه جعل الاختلافات المذهبية قانوناً مفروضاً على الملايين من البشر، بما يتقاطع مع الزمن والنظر إلى دور المرأة المركزي، الذي يعود بالرجعية على المجتمع.
إن هذا القانون لا يمكن وصفه إلا بأنه انحدار كارثي بمكانة المرأة والطفل، مشروع يأتي مروعاً بتقنين "زواج القاصرات" وإباحة استغلالهن جنسياً بسن التاسعة، ويعطي الرجل دوراً صريحاً صارماً على زوجاته، كما تمنح الحضانة التلقائية للآباء في حالات الطلاق التي تشمل أطفالاً يزيد عمرهم عن سنتين، والأكثر إثارة للجدل أنه يسمح للفتيات بالطلاق من سن التاسعة، وهو شرط يعني أنه يجب أولاً أن تكون متزوجة.
ووفقاً لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف)، قالت مبعوثة الطفولة والصراعات المسلحة في الأمم المتحدة، فيرجينيا غامبا: "إن الصبية والفتيات في العراق، الذين هم بالفعل ضحايا انتهاكات بالغة نتجت عن سنوات الصراع، أصبحوا الآن مهددين بسرقة طفولتهم".
إن تطبيق هذا القانون هو شبيهٌ بتصرفات عصابات الإرهاب مع الفتيات، وإجبارهن على الزواج، فالاغتصاب حلال وشرعي ما دمت أضفت عليه صبغة دينية، دعشنة سياسية وكوميديا سوداء، لماذا نصر على أن نمرر قانوناً يصادق على جريمة بشعة مثل تزويج قاصرة؟!
والأسوأ من ذلك أن هذه التغييرات تأتي في ذات الوقت الذي يحدث فيه تآكلٌ مستمر لوضع المرأة في المجتمع العراقي.
هناك مسألة قانونية، كما يلاحظ، سيحيل "قانون الأحوال الشخصية الجديد" قضايا الزواج والطلاق والحضانة والميراث إلى سلطات الوقف الديني -وهي الهيئات المكلفة بإدارة المساجد والمزارات- وذلك لا ينتهك مبدأ الفصل بين السلطات فحسب، بل ينتهك أيضاً حقوق الإنسان والقوانين الدولية المتعلقة بحقوق المرأة والطفل؛ فإن تنظيم هذه القضايا يجب أن يكون من مسؤولية القضاء، وليس السلطة (الدينية) التنفيذية.
ليس ممكناً لمجتمع مدني أن يتحلى بالصمت، أو الخرس الجبري، مع مشروع يتخلف بالمجتمع، لا يمكن السماح ببقاء هذا القانون أو تمريره، لا بد أن العراقيين أدركوا بكل اتجاهاتهم حقيقة ما يجري، بنخر الدولة ومؤسساتها والإضرار بها وبالمجتمع، لنشر توجّه طائفي متشدد يهدد التناغم العقدي والتنوع الديني، لخلق هاجس الطائفة، فلا يمكن بعد ذلك التعامل معه بحسن الظن ورحابة الصدر، فنحن أمام خطّ عبثي فاصل، ينتزع الحقوق قانوناً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.