في 21 أغسطس/آب 1969، أشعل مواطنٌ أسترالي يُدعى دينيس روهان النار في منبرٍ خشبي عمره 800 سنة.
كان المنبر هديةً للمسجد الأقصى من السلطان صلاح الدين الأيوبي (1137 – 1193)، قائد الحملة العسكرية ضد الصليبيين.
وبغض النظر عن اعتبار روهان مريضاً عقلياً، فقد كان يعتقد أنَّه نفذ هجومه وفقاً لأوامر إلهية، وكان ذلك لتمكين اليهود من بناء المعبد على أنقاض المسجد، ما يعجّل بالمجيء الثاني للنبي عيسى، بحسب زعمه.
تأثيرٌ تحفيزي
يقول ديفيد هيرست، رئيس تحرير ميدل إيست آي البريطاني في مقاله المنشور بالموقع: إن الحريق المتعمد الذي دمّر المنبر القديم وجزءاً من سقف المسجد كان له تأثير تحفيزي. فبعد الواقعة بشهر اجتمع 24 من قادة وممثلي البلدان الإسلامية في الرباط، وأنشأوا الرابطة التي تُعرف الآن باسم منظمة التعاون الإسلامي.
وأوضح أن أعضاء هذه المنظمة -التي تضم حالياً 57 دولةً- اجتمعوا في إسطنبول يوم الأربعاء 13 ديسمبر/كانون الأول. وتماماً كما حدث قبل 48 عاماً، حفّزهم الأقصى مرةً أخرى على التحرك، لكن هذه المرة، بدلاً من التعرض لهجومٍ شنّه مسيحي إنجيلي من أستراليا، كان الأقصى مُهدداً بفعل رئيسٍ أميركي يحاول إرضاء المسيحيين الذين يعتنقون فكراً مشابهاً لروهان في بلاده.
وأشار هيرست في مقاله إلى أن المؤتمر حقق عدداً من الأهداف، واتخذ قراراً تاريخياً بالاعتراف بالقدس الشرقية عاصمةً لدولة فلسطين، ما وضع 57 دولة ضد خطة إسرائيل الصريحة لتوحيد مدينة القدس تحت رايتها.
وألقت هذه الخطوة بكرةٍ دبلوماسية ثقيلة تطوف حول العالم، والتي ستدور بصورةٍ مستقلة عن إرادة إسرائيل أو أميركا، وربما تتدحرج عبر آسيا وأميركا اللاتينية وإفريقيا، وستجعل من الصعب على الدول الأخرى أن تنقل سفاراتها إلى المدينة بهدوء، بحسب الكاتب البريطاني.
ويوم 14 ديسمبر/كانون الأول، ألغى مايك بينس نائب الرئيس الأميركي زيارته لإسرائيل.
وضعت القمة فلسطين مرةً أخرى في قلب العالم الإسلامي، وفق هيرست، وذلك بعد مرور 7 سنوات على الربيع العربي، وانتشار تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" وسيطرته على العراق وسوريا، ونتيجةً لذلك، غاب الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني بالغ الأهمية عن الأنظار.
يقول رئيس تحرير موقع ميدل إيست آي البريطاني: إن قمة المنظمة همَّشت المؤتمر الذي أعده وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان من أجل دونالد ترامب بالرياض في مايو/أيار الماضي.
فبدلاً من مؤتمرٍ يعظ فيه رئيسٌ أميركي الزعماءَ المسلمين حول التطرف الإسلامي، برز مؤتمرٌ آخر اجتمع فيه زعماءٌ مسلمون ليعظوا الرئيس نفسه بشأن الأصوليين في بلاده، لهذا، وبعدما أدركوا أنَّ القمة على وشك سرقة الأضواء منهم، أصيب السعوديون بالذعر.
وأضاف هيرست أن السعوديين أرسلوا وزيراً صغيراً للشؤون الإسلامية إلى إسطنبول، ومنعوا تغطية الحدث عبر وسائلهم الإعلامية، وبدلاً من ذلك، أمروا ببث قصةٍ أخرى حول تغطية قناة الجزيرة لاحتجاجات القدس، التي وصفوها بأنَّها كانت تحريضاً على العنف.
قيودٌ على التفاوض مع إسرائيل
الأهم من ذلك في نظر الكاتب البريطاني هو أنَّ إسطنبول وضعت الأسس لإعادة اصطفاف الدول العربية، ولفتت الأنظار إلى رفض اثنين من القادة العرب المؤيدين للغرب، وهما الملك الأردني عبدالله الثاني والرئيس الفلسطيني محمود عباس، لموقف حلفائهما المعتادين في واشنطن.
كان الملك عبدالله هو رئيس ثاني دولةٍ عربية تعترف بإسرائيل، أمَّا عباس فهو الزعيم الفلسطيني الذي كرّس حياته للتفاوض على حل الدولتين الذي لم يعُد متاحاً الآن.
وإدراكاً لأهمية ما كان على وشك الحدوث في إسطنبول، بذلت السعودية ومصر جهوداً مُضنية لمنع عبدالله وعباس من الذهاب.
وكما أفادت التقارير، استُدعِيَ عبدالله وعباس لعقد اجتماعٍ عاجل في القاهرة، لكن لم يلبِّ الدعوة سوى عباس، بحسب هيرست.
يقول الكاتب البريطاني: "أخبرتني مصادر مطلعة -طالبت بعدم الكشف عن هويتها- بأنَّ السيسي ضغط على عباس حتى لا يرأس الوفد الفلسطيني إلى إسطنبول بهدف تقليل أهمية المؤتمر".
وأضاف: "لمساعدته على رفض دعوته إلى إسطنبول، انتشرت أنباءٌ زائفة تفيد بأنَّ عباس قد أصيب بجلطةٍ دماغية، لكنَّ عباس تجاهل كل هذا".
وفي الوقت نفسه، "استُدعِيَ الملك عبدالله إلى الرياض وطُولب بعدم حضور قمة إسطنبول. ولم يلبث الملك عبدالله سوى بضع ساعات في الرياض ثم غادر إلى إسطنبول".
وبعث حضورهما المؤتمر رسالةً إلى السعودية وأميركا تفيد بأنَّ اتفاق الرياض مع ترامب لا يقبله كلّ من الأردن وفلسطين، وتدعم الدول الإسلامية هذا القرار. وبعبارةٍ أخرى كما يقول هيرست: لستما مخولين بالتفاوض مع إسرائيل دون الرجوع إلينا.
وأعرب الزعيمان للعامة عن معارضتهما وغضبهما بالوقوف جنباً إلى جنب مع الرئيس التركي القوي ذي النزعة الإسلامية رجب طيب أردوغان أثناء التقاط صورة للمؤتمر.
وقال الملك عبدالله: "أكرر أنَّ القدس هي خطّنا الأحمر، وأنَّ الحرم الشريف سينتمي للأبد إلى المسلمين، ولن نتخلى أبداً عن مطالبتنا بسيادة واستقلال فلسطين. لا يمكننا أن نقف متفرجين في هذا الوضع؛ لأنه يؤثر في مستقبلنا جميعاً".
ثم ألقى عباس أعظم خطاباته طوال فترة حكمه، بحسب الكاتب البريطاني؛ إذ اتهم أميركا بإفساد الجهد الذي ظل يبذله طوال حياته في محاولة إقامة حل الدولتين، وقال: إنَّ قرارها تخطى جميع الخطوط الحمراء.
وكشف عن أنَّه كان يربطه اتفاق شرف مع واشنطن على عدم السعي إلى إقامة دولة مستقلة أو الانضمام إلى المنظمات الدولية قبل التوقيع على اتفاق سلام دائم، لكنَّ واشنطن أخلفت وعدها.
وهذا يعني أنَّ فلسطين ستكون حرة في رفع قضية ضد إسرائيل في المحكمة الجنائية الدولية.
وثالثاً، قال عباس: إنَّه سيتقدم بشكوى ضد الولايات المتحدة أمام مجلس الأمن الدولي لانتهاكها أحد قراراته، وهو إجراء لا يمكن للولايات المتحدة نفسها التصويت ضده.
ارتكاب الخيانة
يقول هيرست في مقاله المنشور بموقع ميدل إيست آي البريطاني: إن "عباس وعبدالله ليسا من الحلفاء المخلصين لأردوغان؛ إذ سافر عبدالله منذ عامين إلى واشنطن لينبه قادة الكونغرس إلى المخاطر التي يضع فيها الرئيس التركي النظام الإقليمي".
وكذلك يعي عباس حدة التنافس بينه وبين حماس جيداً، وحاول مراراً إخراج فتح من حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية. ويتساءل هيرست: "إذاً، ما الذي دفع كلا الرجلين إلى الذهاب إلى إسطنبول، وإلى مؤتمرٍ يعرفان أنَّه قد يغير خريطة التحالفات في المنطقة كلها؟".
ويعود ليجيب قائلاً: إن الدافع لا بد أن يكون أمراً قوياً ليتغاضى كلّ منهما عن نفوره الطبيعي من التحالف مع الإسلاميين.
ويوضح أن كلا الرجلين لجأ إلى الزعيم الأكثر شعبية في المنطقة وفقاً لاستطلاعٍ أجراه مركز بيو الأميركي للدراسات، وإلى تركيا التي يُنظر لها باعتبارها الفاعل الإقليمي الأكثر تأثيراً في المنطقة بعد روسيا.
ولعبت السياسات المحلية دورها في هذا. فكلاهما علم أنَّ الغضب في شوارع بلادهما كان حاداً؛ إذ شهدت عمّان أكبر مظاهرات في شوارعها منذ عقود. وأكثر من نصف الأردنيين هم من اللاجئين الفلسطينيين، بمن فيهم النازحون من القدس عقب حرب 1967، وأغلبية المواطنين في عمّان إما لاجئون فلسطينيون أو فلسطينيون حاملون للجنسية الأردنية.
ورأى كلاهما أنَّ اعتراف ترامب بالقدس عاصمةً لإسرائيل هو نوعٌ من الخيانة السياسية، بحسب الكاتب البريطاني.
وبالنسبة لعباس، كانت هذه خيانة لاتفاقٍ شفهي مع واشنطن بعدم رفع قضية فلسطين إلى المحكمة الجنائية الدولية حتى الوصول إلى تسويةٍ نهائية.
أما بالنسبة للملك عبدالله فلم تكن الخيانة أقل مفاجأة من نظيره، فدور الأردن في الوصاية على الأقصى ليس ودياً، بل مكتوب في معاهدات السلام، لا سيما معاهدة وادي عربة التي وقّعها الملك حسين مع إسحاق رابين، رئيس الوزراء الإسرائيلي عام 1994.
وبالمثل، حين أعلن الملك حسين في 1988 إنهاء ارتباط الضفة الغربية بالأردن، والاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً وحيداً للشعب الفلسطيني، أصرّ على أن تستمر الأردن في الوصاية على الأقصى.
الأمر شخصي
لكنَّ السبب الثالث لاستياء كل من الرئيس الفلسطيني وملك الأردن هو الأكثر إثارة للاهتمام، وفق هيرست، وهو أنَّ الأمر شخصي بالنسبة لهما، وغضبهما حقيقي. فبالنسبة لعباس، خان ترامب عقوداً من العمل على تأسيس دولة فلسطينية.
ولعب عباس دوراً سلبياً في مواجهة توسع إسرائيل، ودفع الثمن يومياً بفرض القانون نيابةً عنها في أراضٍ لن تغادرها أبداً.
وبالنسبة لعبدالله، تعد هذه الخيانة إهانةً لعائلته الهاشمية غير الفلسطينية. ويؤكد هيرست ذلك قائلاً: "اقتنعتُ بهذا بعد محادثةٍ طويلة مع أحد أفراد العائلة الملكية. فلا زال الهاشميون يذكرون الوقت الذي كانوا فيه أوصياء على المواقع الإسلامية المقدسة الثلاثة: مكة، والمدينة، والقدس".
كان هذا عام 1924، حين ضمّ الحسين بن علي الهاشمي (وهو القائد العربي الذي شن الثورة العربية الكبرى ضد العثمانيين) مدينتي مكة والمدينة لوصايته، وفي السنة نفسها، منحه شعب القدس حق حكم مدينتهم.
لكنَّه لاحقاً في نفس العام خسر مملكة الحجاز لصالح السلطان السعودي عبدالعزيز بن سعود.
والأردن هو كل ما تبقى الآن مما يسمى "الثورة العربية الكبرى" التي تزعمها الجد الأكبر للملك عبدالله.
وتابع هيرست قائلاً: "حين قال محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، لعباس أن ينسى القدس وحق العودة، كان ذلك نوعاً ما تكراراً للتاريخ بالنسبة للهاشميين؛ إذ إنَّهم لم ينسوا عداءهم مع السعوديين وخسارتهم اثنتين من المدن المقدسة منذ سنواتٍ مضت، وما زالت الضغينة حية في قلوبهم".
القدس في هذه الحالة ليست إذاً مجرد مشكلة أجنبية في دولةٍ أخرى، ولكن تمثل إلى حد كبير اختباراً لشرعية الهاشميين كحكام لدولتهم نفسها، ويعرف عبدالله من تاريخ عائلته أنَّهم حين يخسرون عنصراً أساسياً في شرعيتهم، يفقدونه للأبد.
من الجانب الخاسر؟
يقول هيرست: "أياً كان قرار الملك عبدالله، سيكون له تبعاته. قد يقول المشككين إنَّه اختار الجانب الخاسر مرةً أخرى؛ إذ يملك التحالف المقابل الذي يضم السعودية، والإمارات، وأميركا، وإسرائيل الثروة، والسلطة العسكرية، والتطور التكنولوجي، وتشكل أطراف التحالف معاً جبهةً قوية".
لكنَّه كذلك يتذكر -بحسب الكاتب البريطاني- كيف رفض والده الملك حسين الانحياز للجانب الفائز ثلاث مرات خلال حكمه الطويل للبلاد، مستجيباً بدلاً من ذلك إلى غريزته كقائدٍ عربي.
ففي عام 1967، حذرت إسرائيل الملك حسين من التدخل في الحرب، لكنَّه فعل واتحد مع عدوه القديم الرئيس المصري جمال عبدالناصر. وقالت عن ذلك ليلى شرف، وزيرة الإعلام الأردنية السابقة، لقناة الجزيرة الوثائقية: "لم تكن عدم المشاركة في هذه الحرب ممكنةً بالنسبة لحسين، كان الجميع سيلومونه على الهزيمة لو فعل ذلك".
وفي عام 1973، أرسل الملك حسين قوات عسكرية لمساعدة سوريا في مرتفعات الجولان خلال الحرب التي شنّها الرئيسان أنور السادات وحافظ الأسد، ودعم كذلك الرئيس العراقي صدام حسين في حرب الخليج الأولى عام 1991.
في كل مرة، دعمت الأردن رفاقها العرب وهي تعي ما تفعل، حتى مع علمها أنَّ مصيرهم الهزيمة. لم يتنبأ الملك حسين بالهزيمة في حرب 1967، لكنَّه عرف أن الأردن قد يهزم. لماذا؟ لأنَّه رأى أنَّ التصرف خلاف هذا قد يجلب مخاطر وجودية أعظم وأكبر، وهذا هو الموقف الذي يجد الملك عبدالله نفسه فيه الآن، بحسب هيرست.
كان أسوأ جزء في بيان ترامب بالنسبة للأردن هو إصراره على أنَّ الاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل يعكس الواقع. لم يكترث ترامب بشرعية ذلك، أو بالقوانين الدولية، أو المعاهدات، أو قرارات الأمم المتحدة، التي ترفض كلها قبول ضم إسرائيل للقدس الشرقية.
ويخلص الكاتب البريطاني إلى أن تحويل القدس إلى حقيقةٍ أخرى على أرض الواقع رسختها إسرائيل بالاحتلال والاستيطان هو ما جعل قبول القرار مستحيلاً.
ويختتم مقاله قائلاً: "هذه المرة -ولم أظن أنِّي قد أكتب هذا- استحق الملك عبدالله الثاني والرئيس محمود عباس مكانهما كزعيمَين عربيَّين".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.