سهرة مع جمعية مقاطعة إسرائيل في تركيا
دعاني الصديق عمر تليأوغلو إلى مرافقته لحضور الأمسية الثقافية التي يقيمها الفرع التركي من جمعية مقاطعة إسرائيل بمناسبة مرور مائة سنة على وعد بلفور، والصديق تليأوغلو مؤرخ تركي متخصص في القضية الفلسطينية ومجالسته حافلة بالفائدة.
كانت الدعوة مغرية، خاصة أن الفرع الخليجي من جمعية مقاطعة إسرائيل قد أقام نشاطاً شبيهاً ناجحاً في الكويت الشهر الماضي، شعرت ببعض التردد وكان ذلك لوجود المؤرخ إيلان بابيه، وهو مؤرخ من جماعة المؤرخين الإسرائيليين الجدد الذين توصلوا بالبحث العلمي النزيه إلى دحض الرواية الإسرائيلية عن قيام دولة الصهاينة؛ إذ يعتبرون أن العصابات الصهيونية قد قامت بتطهير عِرقي مدروس للفلسطينيين، وقد اشتهر هذا المؤرخ بكتابه عن التطهير العرقي وله كتب أخرى تلتقي مع كتابه ذاك في رسالتها، ومن أهم الأبحاث التي أشرف عليها بحث للماجستير أثبت أن الإسرائيليين قاموا بذبح مائتي فلسطيني وهم في بيوتهم في قرية الطنطورية بحيفا، الأمر الذي يعرض مرتكبيها في العالم لمتابعات قضائية، خاصة أن البحث قد توصل إلى أسماء المجرمين الصهاينة، وبعضهم ما زال على قيد الحياة، إيلان بابيه مؤيد كما قيل في هذه الندوة لأهداف الحركة، وهي أهداف عظيمة.
الحركة ترمز لنفسها باختصار BDS، يرمز B إلى المقاطعة، وD إلى سحب الاستثمارات، وS إلى المعاقبة، يعني حركة مقاطعة ومعاقبة وسحب الاستثمارات من إسرائيل، وهكذا فإن المعلومات السابقة طمأنتني بأنني لن أشارك في نشاط تطبيعي، إذ ما زلت أعتقد أن التطبيع مع الصهاينة هو جريمة الجرائم.
اللقاء كان فيه محاضر مهم هو الدكتور عادل مناع، وهو مؤرخ فلسطيني قادم من القدس متخصص في تاريخ فلسطين العثماني، بالإضافة إلى محاضرين أتراك، محاضرة بابيه كانت عن دور بريطانيا في إقامة دولة الصهاينة، والقمع الذي مارسته ضد الفلسطينيين، وأشار إلى نقاط مهمة لم تلق عناية في السابق، منها أن بريطانيا أفرغت فلسطين بالتعسف وغشم القوة من النخبة الفلسطينية التي كانت مؤهلة لقيادة الشعب الفلسطيني عندما قامت حرب ١٩٤٨، وذكر أمثلة لذلك عن الشخصيات والمؤسسات الفلسطينية التي صفّاها البريطانيون ليخلو الجو للصهاينة.
كانت الأمسية مفيدة، خاصة أنه كان تتم ترجمة الكلمات إلى العربية والتركية والإنكليزية، وقد مكنتني من التعرف عن كثب على هذه الحركة الرائدة BDS وعبقرية تكوينها، فالذين كوّنوها يفهمون كيف يفكر الغرب، وقد توجهوا إليه بلغة يفهمها، فإسرائيل دولة تمييز عنصري أسوأ مما كانت عليه دولة جنوب إفريقيا، وما زالت مستمرة في تصفيتها العرقية للفلسطينيين، وقد استطاعت الجمعية أن توظف الكثير من مواطني الدول الغربية في مقاطعة ومنع الاستثمار في دولة إسرائيل، الأمر الذي أصاب الصهاينة عدة مرات بهلع؛ لأنه يؤدي إلى تقطيع شرايين الحياة عن الصهيونية.
تخوض إسرائيل حرباً ضارية ضد الحركة في المحاكم والجامعات ودور التجارة في أميركا وأوروبا، ورغم ذلك فالحركة تحاول وتحقق نجاحات مهمة، أهم ما نجحت فيه BDS أنها تقوم على أكتاف أبناء البلدان ذاتها، فليلة أمس لم يكن بين المنظمين أحد غير الأتراك، وكذلك في النشاط الشبيه الذي عملته في الكويت كل الأدوار المهمة قام بها مواطنون خليجيون.
إن هذا يجعل القضية الفلسطينية قضية محلية في كل الدول ويعطيها زخماً فوق المعتاد، كما أن عدم عملها تحت أي راية من الأحزاب الفلسطينية كفيل بحمايتها من أن تقوم الجماعات المنافسة بمحاربتها وتشويهها، الأمر الذي ينعكس سلباً على القضية، وأبلغ مثال لذلك الحرب التي مارسها الإسلاميون الفلسطينيون لتشويه التيارات اليسارية والقومية بين شعوب الخليج إبان تسيّد فتح للساحة الفلسطينية، والحرب التي تمارسها تيارات فتحاوية وأخرى متصهينة على حماس في الخليج منذ أخذت حماس تتسيد الساحة الفلسطينية، تبدأ الحرب عادة بنقد الأفكار، وأنا متفق مع الذين يرون أنه لن يتحقق نصر في فلسطين إذا حيدنا الإسلام، ولكنها لا تقف هنا بل تنتقل من نقد الأفكار إلى نقد الأشخاص والتصرفات مع تعمد التشويه، وينتهي الأمر عند العامة إلى شيطنة الطرف الآخر وتجريمه، يضاف إلى ذلك لجوء كل منهما إلى من يتلاقى معه فكرياً من أبناء تلك البلاد.
جميع هذا أدى إلى اختلاف الناس على القضية الفلسطينية العادلة وقضية القدس، ويمكن ضرب المثل اليوم بالمتعاطفين مع أحد أطراف الأزمة الخليجية من المحسوبين على حماس، وكيف عملوا بشكل أقرب إلى النائحة المستأجرة لصالح الطرف الذي تماهوا معه، رغم أنه لا يحتاجهم، أمر قد يؤدي -لا سمح الله- إلى موقف شعبي ضد الفلسطينيين شبيه بموقف الكويتيين من فلسطين والفلسطينيين بعد الاحتلال العراقي رداً على عرفات وتصريحاته.
أتمنى أن يؤدي نشاط مثل هذه الحركة إلى محاصرة الدولة الصهيونية وإلى فضح أخطاء كثيرة ارتكبت بحق أهل فلسطين، أخطاء جعلت -كما عبّر بعض المتداخلين- قضيتهم كارثة الكوارث على المستوى الإنساني والأخلاقي والسياسي، دفع ثمنها الفلسطينيون اليوم، وسيدفع ثمنها العرب غداً، واليهود بعد غد، والعالم من بعدهم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.