تاريخ اللغط في علاقة السياسة بالدين في مصر

الذي حدث هو أن المجتمع المصري كان الحافظ للقيم والحامي لها من أي انتهاك وهو أقوى من الدين والقانون، بل كان العيب أصلاً حراً وامتداداً لأصل الدين في منظومة القيم، رغم أن العيب شيء والحرام شيء آخر تماماً؛ لأن المجتمع هو الذي يحدد صنوف العيب، بينما الدين بتفسير منضبط هو الذي يحدد طوائف الحلال ودرجاته والحرام ومراتبه.

عربي بوست
تم النشر: 2017/12/17 الساعة 02:32 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/12/17 الساعة 02:32 بتوقيت غرينتش

لا يزال الحاكم في مصر يطالب بفصل السياسة والدولة عن الدين، كما لا يزال رجال الدين يصرون على أن الإسلام دين ودنيا، شريعة وعقيدة.

وانتهى الأمر بأن الحاكم يصر على إبعاد الشعب عن السلطة، وهي عنده السياسة والدنيا، وللعامة الحلم بالآخرة، ولذلك يضج العامة بالضراعة إلى الله بأن يصلح دنياهم التي فيها معاشهم وآخرتهم التي إليها معادهم.

وقد أسهمت الصورة النمطية التي قدمت المفاهيم من أطراف متصارعة جاهلة بحقيقتها أو متعمدة عن سوء قصد في تدمير السلام الاجتماعى والقيم، في بيئة تم تجريفها عقلياً وثقافياً وفكرياً، ففقدت الحصانة الثقافية والقدرة العقلية اللازمة لتمحيص هذه المفاهيم.

وقد عالجت هذه القضايا في مقالات متعددة خلال السنوات الماضية ونشرت في مواقع عديدة، منها موقع الجزيرة.نت، ولكن النظر المتجدد إلى هذه المشكلة المزمنة سيظل ضرورياً؛ لأن تفاعلاتها تلازم حياتنا كل يوم.

وقد شعرت بالفزع وأنا أسجّل الملاحظات على الحوارات والأحداث الدامية في الشارع وفي البيوت وعلى الإعلام التقليدي والإلكتروني، وقد زادني ملاحظة الواقع قناعة بأمرين أؤمن بضرورة التصدي لهما: الأمر الأول هو أن حكام مصر على مر العصور تركوا المجتمع المصري يتفاعل ويرتب طبقاته دون أن يكون طرفاً في السياسات والقرارات، وأن ثوراته ضد حكامه كانت بتأليب من قيادات هي في الأغلب الأعم قيادات دينية، وهذه مسألة تاريخية وجينية عند المصريين منذ كان الفرعون إلهاً وملكا في نفس الوقت، ولذلك ترك الدين قسمة بين الحاكم ومَن يصطفيه من رجال الدين ممن يطلق عليهم فقهاء السلطان، أما غيرهم من زملائهم فهم متمردون خارجون أحياناً عن الملّة بفتاوى فقهاء السلطان، وأما السياسة فيحظر على الشعب الحديث فيها أو الجهر بها.

وكان الناس في أغلبهم لا علاقة لهم بالدين والسياسة، وعهدوا بها إلى أصحابها، وكان الجهل بهما ميزة كبرى؛ ليتفرغ الناس إلى أعمالهم، ما دام المشتغلون بهما عرضةً دائماً للاحتكاك بالسلطان وفقهائه ونقمتهم وعذابهم.

هكذا تشكّل في المدرك المصري أن الدين لله، بمعنى الجهل به أحق من الإبحار فيه، والإفتاء فيه متروك للمفتي الرسمي الذي يُعيّنه السلطان، فتبرأ العقل المصري من كل معرفة أو حديث في الدين، بل أصبح المصري التقليدي الذي يرتاد المساجد ويستعين برجال الدين ومن على شاكلتهم من المشعوذين ومحترفي الطرق الصوفية بيئة خصبة لازدهار هذا النوع من الثقافة.

أما من تجنّب المساجد وارتاد المقاهي فهم طبقة ثانية، وأما من اندمج في الثقافة والفكر، فالأرجح أنه ابتعد عن مظاهر الدين، وأصبح عدواً وهدفاً لفقهاء السلطان يكفرونه إن جرؤ على الحديث أو تناول شؤون الحكم والحكام، فانحطَّ قدره عند العامة، ولذلك يفضل مَن كان يمثل شخصية الفنان أحمد مظهر في فيلم دعاء الكروان.

وغالباً كان هؤلاء المثقفون يختلفون عن "الموظفين"، وكانوا يجارون الأجانب كلما ارتقت الطبقة التي ينتمون إليها في هذه البيئة.

أما المفاهيم الشائعة كالليبرالية والعلمانية والمجتمع المدني، وكل نتاج المجتمع الغربي، فقد دخلت في عصر معين وفي طبقة معينة، ثم تغير تركيب المجتمع وظلت هذه المفاهيم على حالها.

ولم يسلم عصر في مصر من صراع المفاهيم والمصطلحات، فعبد الناصر بعد صدامه مع الإخوان المسلمين وإدخال الاشتراكية العربية أنتج طبقة من الكتاب والأساتذة الذين روّجوا للصدام بين الوطنية مهما كانت مستبدة وبين التطرف الديني، فاتهم بالزندقة والإلحاد، والعلمانية بمعنى الكفر والخروج من الملة.

ومن جانبه، كان إعلام عبد الناصر يزدري أصحاب اللّحى، خاصة خلال صراعه مع الملك فيصل الذي آوى إليه أعداءه، وكانت الرسالة موجهة إلى الملك فيصل وإلى الإخوان، أما من كانت لحيته من قبيل الشياكة وتقليد ممثلي السينما الغربية فهو راسبوتين وصائد قلوب العذارى.

في هذا السياق تجب الإشارة إلى أن واشنطن استخدمت التيارات الإسلامية جميعاً، ولا بد من الاعتراف بأن تقلّب النظم السياسية في مصر بين الشرق والغرب أدى إلى تقلبات في السياسات الداخلية والخارجية، وخلخل ثقافة المصريين التي ترى الشرق على أنه الشرق العربي الإسلامي وليس الشرق الماركسي، كما ترى الغرب مصدراً للتعليم والتكنولوجيا، ولكنه أيضاً مصدر للبدع وأنه في صراع تاريخي مع الإسلام، وأنه الزارع والحامي لإسرائيل، ولكن هذه الثقافة كانت تقبل التعايش بين المصريين مهما كانت روافد ثقافاتهم، فكانوا يسعدون بمن يسعى إلى المساجد، ويدعو إلى الفضيلة، ويجلّون حملة كتاب الله.

ولم تكن الفواصل المادية بين الطبقات في الستينات فادحة، وكان الناس يشتركون جميعاً في حد الكفاف، وكان التسامح والقبول والرضا من سمات المصري الحقيقي، وكانت ترحب بالعرب والأجانب أشد من ترحيبها بأبنائها.

حدثت النقلة الكبرى بعد 1967 حين بدأ التيار الإسلامي في الظهور ليفسر هزيمة يونيو على أنها هزيمة للمد القومي العلماني الملحد الناكر لوجود الله، وهي درس قاسٍ يدعونا إلى العودة إليه والاعتصام بحبله، فبدأ الصدام بين اليسار العلماني الليبرالي واليمين الديني ثم جاء السادات فعمَّق الهوة، أزاح اليسار وأحل اليمين ورسم لنفسه صورة رجل العلم والإيمان، وأنها دولة العلم والإيمان.

كانت تلك هي بذرة الاختلال، ثم تصادف أن جاءت حرب 1973 بازدهار أسعار النفط فدخلت المنطقة عصر النفط، وسوف تثبت الدراسات الجادة أن عصر النفط كان وبالاً على المنطقة العربية وقضاياها وأول أسباب تغير المجتمع المصري صوب ما نحن فيه، والغريب أن بعض دول النفط الخليجي دخلت على خط الأزمة لتعميقها بصور مختلفة.

في هذا العصر النفطي بدأت تتكون مجموعات من المصريين يشكلون عصب التيارات الإسلامية وتكفير المجتمع ومختلف الأفكار المتعسفة للدين، والتي عمقت الهوة بين المسلم وظهور الإسلامي، وبين الإسلامي والقبطي فبدأت الفتنة الطائفية من موجة الأسلمة الأولى بعد 1967، أي في عام 1972 قبل أن تأتي حرب 1973 بالطوفان الثاني وحادث الفنية العسكرية وقتل الشيخ الذهبي، ثم اغتيال السادات والمطالبة بأسلمة الهواء والماء والمأكل والملبس، فتغير كل شيء في مجتمع مؤمن بطبيعته ولا يحتاج إلى رقباء يحثونه على الصلاة والصيام وحفظ الفضيلة.

الذي حدث هو أن المجتمع المصري كان الحافظ للقيم والحامي لها من أي انتهاك وهو أقوى من الدين والقانون، بل كان العيب أصلاً حراً وامتداداً لأصل الدين في منظومة القيم، رغم أن العيب شيء والحرام شيء آخر تماماً؛ لأن المجتمع هو الذي يحدد صنوف العيب، بينما الدين بتفسير منضبط هو الذي يحدد طوائف الحلال ودرجاته والحرام ومراتبه.

ورافق هذا الاختلال في علاقة المسلم بالإسلامي تراجع سلطة الدولة ومؤسساتها الدينية التي أصبحت كلها جزءاً من حريم السلطان ففقد الناس المرجعية، فظهرت آلاف المرجعيات الطوعية ودخل في ساحة الدين أطياف غريبة ممن عرفوا بالدعاة أسهموا في توسيع دائرة الأزمة.

ثم جاءت الموجة الثالثة بثورة 25 يناير/كانون الثاني التي أخرجت الجميع من إسار القهر إلى آفاق الحرية لشعب تعرض للتهميش السياسي، والشحن الإعلامي والفقر التعليمي والتجريف القيمي، والتوجه الديني والاجتماعي في غيبة الدولة، التي هي المسؤول الأول عن كل هذه المآسي؛ لأنها اختزلت في شخص الحاكم وبطانته التي فطنت إلى أنها لا تستطيع أن تحكم شعباً له عقل وثقافة، والطبقة الحاكمة تعاني من فقدان العقل وضحالة الثقافة، فكان الحاكم يختار في كل موقع الأقل منه عقلاً وثقافة، ويفضل أن يختار شريكاً في الهيمنة على الوطن وثرواته، حتى فسدت الذمم، فصار الحال إلى ما نحن فيه، ولا يمكن اختزال الأزمة وتبسيطها على أنها صراع على السلطة بين قوى تصفّي الحسابات فيما بينها.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد