من المصطلحات المتعارف عليها لدى قيادات وأنصار التيارات الإسلامية العريضة مصطلح الغربة، الذي يُعدّ تراثاً إنسانياً وظاهرة دينية وُجدت عبر التاريخ لكل من تم رفضه والحجر على أفكاره، فرداً كان أو جماعات، وقيمة وقوة هذا المصطلح تكمن في الاستدلال بقول سيدنا محمد عليه الصلاة وأزكى التسليم، عندما قال في حديثه الصحيح "طوبى للغرباء"، مستشرفاً الحالة التي سيحياها أهل الإسلام الرباني وخاصته من المصلحين الذين أصلحوا إذا أفسد الناس، فلا خلاف حول المدلول الفقهي والتاريخي، ولكن أي فصيل يحق له أن ينسب الغربة لمساره الفكري وطرحه الشرعي ونضاله الميداني.
مرونة المصطلح جعلت منه سهل التوظيف، خاصة أنه يمثل المسافة السحيقة بين الطرح الدعوي والتوظيف الواقعي، مما بسَّط الانتقائية والخلل المنهجي عند إسقاط النصوص، وهذا الذي وقع فيه الكثير من الإسلاميين.
فمصطلح الغربة لو نتمعن في مضمونه ونجتهد في تفكيك معالمه، فسنجد أن المنضوي تحت هذا المسمى المتسم بروح التشاؤم، يكون مصير أصحابه وأنصاره الرفض من جميع النواحي الحياتية والوجودية نتيجة رفضهم العادات القديمة المستشرية، وسعيهم لتمكين العادات الجديدة المتمثلة في قيم الحرية وإقرار التوحيد لله وحده دون من سواه والعدل وتحريك الضمائر الإنسانية ورفض الفساد بشتى أنواعه من سياسي واقتصادي وثقافي وإعلامي.
وهنا يكمن التناقض لدى أصحاب هذا الطرح، خاصة من يبرّر لولي الأمر -الرئيس- بحجة السمع والطاعة ولو فسد وأفسد وظلم وسرق، استدلالاً بمقولة "حاكم ظلوم ولا فتنة تدوم"، فيصبح حال تلك الطائفة المتغنية بالغربة الرفض علناً، بالمقابل الترحيب والقبول سراً، ولا حرج أن يتم توظيفهم عند الحالات الطارئة، فأصبحت السلفية السلطوية دليلَ خضوع وخنوع وتنويم وتخدير لكل هيجان وسخط شعبي، رافضاً الفساد مطالباً بحقوقه المكفولة شرعاً وقانوناً، وتم تحويل الاغتراب الوجودي من حق نسبي، المُراد به باطل مطلق.
ولعلنا هنا نلاحظ الخارطة السياسية لجماعات تعاني غربتها على حد قولها، لكنها بالمقابل تبرر الولاء لأنظمة الاستبداد والاستعباد، فمن مصر بقيادة مشايخ السلفية التقليدية، ومنهم الشيخ الرسلان والرضواني والبرهامي وبكار ومحمد حسان وحسين يعقوب، فتراهم مهللين بزمن الاغتراب.
لكنها غربة تتسم بالحضور القوي والترخيص الرسمي من سلطات الانقلاب والاستبداد، رغم اتساع الفجوة النضالية بين الفريقين، وكما في مصر الحال بليبيا، وخاصة بعد رسالة الاستنفار التي خرجت من الشيخ المحدث ربيع المدخلي، داعياً لمحاربة الإخوان، متهماً إياهم بأنهم أخطر من اليهود والنصارى، ومروراً بالأردن والمغرب الذي أبت سلفية الملك بقيادة شيخها المغراوي إلا أن تتحالف مع حزب الملك -حزب الأصالة- ضد حركة الإخوان الممثلة في حزب بنكيران الحاكم، ووصولاً إلى الجزائر، والذي تفنن مشايخ السلفية السلطوية في تقزيم الصحوة الإسلامية، متهمين إياها بالتحزب تارة وبالخروج وجلب المهالك تارة أخرى.
وفي الجزائر، كثرت الغربات، فتعددت من سلفية الشيخ شريفي قديماً قبل أن ينشق عن الشيخ ربيع المدخلي رافضاً التبعية العمياء، وأيضاً الشيخ عبد المالك رمضاني الذي لمع اسمه بانتقاده رمز وأيقونة الإسلام الحركي الشيخ علي بن حاج، الذي لا يزال يمثل رمزاً حركياً يستلهم منه الشباب بشتى التيارات معنى المبادئ والإيمان بالفكرة مع تأصيلها وفق اجتهاده ونظرته الإسلامية، وصولاً إلى الشيخ عويسات الذي لا يكلُّ ولا يملّ من وصف الغربة.
بالمقابل، تمنح له السلطات ولأنصاره القاعات من أجل تجمّع مرخّص يتحدث فيه عن الجانب الدعوي وفق النظرة السلفية الضيقة المستوردة، مع مدحه السلطة وانتقاد الحركات التي أخذت من الإسلام السياسي مبدأ لها، فأي غربة يقصد؟
كما أن للشيخ فركوس حضوراً خافتاً، لكن يبقى طرحه يصب في الشق العلمي، متماشياً مع سلفية المدخلي، ولعله يستمد تلك القوة والهيبة من تزكية المدخلي ومن سار على خطاه.
وأخيراً، فالمقولة الأصدق التي تمثل حالة الفصام وازدواجية الشخصية لدى عموم هذا الفكر هي التي طرحها أحد المفكرين الغربيين قبل قرون من الزمن عن علاقة أوروبا بأرسطو قائلاً: "أوروبا تعبد أرسطو وتلعنه في آن واحد"، وهذا ديدن فقهاء الغرب؛ يبررون ويمجدون ولاة أمورهم وينافحون عن سلطانهم، بالمقابل يلعنونهم في أدبياتهم الفقهية عندما يتعلق الأمر بالجانب النظري البحت بعيداً عن الإسقاط الواقعي، فعن أي غربة يتحدث المشايخ؟ وما نوع الغربة التي يعانيها السلفيُّون السلطويُّون؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.