إن دراسة الأجيال الثلاثة لـ"القاعدة" يتطلب تمحيصاً دقيقاً للأحداث والتواريخ التي حصلت في منطقتنا منذ ولادة ما يُعرف بـ"القاعدة" في أفغانستان حتى يومنا هذا.
تخللت الفترات التي تسلَّم فيها جيل جديد عن الجيل القديم بعض المراجعات الفكرية، بعد أن عايش قادة هذا الفكر سنوات من الحروب المخيفة، والتي أجبرتهم على المراجعة الفكرية لتكون زاد الجيل القادم.
الأجيال الثلاثة لـ"القاعدة"، تكلم عنها الكثيرون، وخرجت نظريات كثيرة تقوم بترتيب الأزمنة، وفي ضوء بعض الأحداث استُنبطت بعض النظريات. بينما النظرية الفكرية التي ترتقي أن تكون مرجعية للتصنيف هي أن الأجيال، سواء كانت فكرية أو عسكرية، ترتبط ولادتها بالأحداث والاستحقاقات العظمى التي تحصل، فتنعكس على القيادات فكرياً، فيحدث انشقاق داخل الفصيل أو تتغير الأولويات لتتولد أفكار جديدة وخيارات مستحدثة.
لا يمكن اعتماد ظهور "القاعدة"، بمسمّاها القديم "الأفغان العرب"، في أفغانستان كولادة للجيل الأول لـ"القاعدة". خرج بن لادن من جزيرة العرب إلى الجبهات ضد السوفييت بدعم دولي عربي، لينخرط في إحدى الحروب الباردة والأخيرة بين السوفييت والأميركان، وما كان يتصور أن تصبح القوات التي أسسها، نواة لخروج الجيل الأول من "القاعدة" فيما بعد.
حتى إن بن لادن قد اختار اسم "القاعدة" مستوحى من فكرة "قاعدة البيانات" لـ"المجاهدين" القادمين من الدول الإسلامية أو الغربية، والذين انتهى بهم المطاف إلى الاستشهاد، أو البقاء في أفغانستان وباكستان، أو العودة إلى ربوع الوطن وزجّهم في السجون. كان بن لادن يرتبك حين سؤاله من قِبل أهالي المجاهدين عنهم، فقرر تأسيس "قاعدة بيانات" للمهاجرين المجاهدين إلى أرض أفغانستان، فسُميت "القاعدة".
الحدث الكبير الذي جعل من "القاعدة" جيلاً فكرياً وعسكرياً أول، هو ولادة النظام العالمي الجديد، من خلال عنوانين كبيرين؛ أولهما انهيار الشيوعية وجدار برلين عام 1989؛ ومن ثم تتويج الولايات المتحدة على عرش النظام العالمي كقطب أوحد في القيادة من خلال حرب الخليج الثانية وتدمير القوة العراقية بعد غزو الكويت عام ١٩٩١.
وكرد فعل على نزول القوات "الصليبية" على أرض جزيرة العرب، كفّر بن لادن النظام السعودي، ليبدأ بشن عمليات ضد المصالح الأميركية، فاستهدف السفارتين الأميركيتين في كل من دار السلام في تنزانيا ونيروبي بكينيا في الذكرى السنوية الثامنة لقدوم القوات الأميركية إلى المملكة العربية السعودية.
كانت نهاية الجيل الأول من "القاعدة" بعد تتويج عملياتها بضرب البرجين العملاقين في نيويورك، رمز العظمة الاقتصادية الأميركية، عام 2001.
من الأهمية بمكان، عدم تجاهل ما ترتب على نتائج حرب الخليج الثانية بعد انهيار القوات العراقية بفِعل قوة وتقدم تكنولوجيا الآلة الحربية للقوات الأميركية. تُعتبر اتفاقية أوسلو عام 1993 هي ثمرة تربُّع الولايات المتحدة على عرش النظام العالمي، لتُعلِن للعالم قبول الفلسطيني مبدأ الدولتين، وأن القضية الفلسطينية هي عنوان الاستقرار في أكثر منطقة حساسة بالعالم، الشرق الأوسط.
إذن، يمكن اعتماد أن الغزو الأميركي للعراق عام 1991؛ ومن ثم اتفاقية أوسلو عام 1993، هما عنوانان لولادة الجيل الأول لـ"القاعدة" على لسان بن لادن الذي خرج بقَسمه المشهور "أُقسم بالله العظيم الذي رفع السموات بلا عمد، لن تحلم أميركا ولا من يعيش في أميركا بالأمن قبل أن نعيشه واقعاً في فلسطين وقبل أن تخرج جميع الجيوش الكافرة من أرض محمد صلى الله عليه وسلم".
الجيل الثاني من "القاعدة" أتى بعد أن أحدث بن لادن الصدمة المرعبة في وجه العملاق الأميركي بهجمات سبتمبر/أيلول 2001، فترتب على ذلك نزول القوات الأميركية والبريطانية أفغانستان ومن ثم العراق من جديد، لتخرج "داعش" من رحم "القاعدة" الفكري، المتمثل بشخص الزرقاوي، والذي عارض بعض أفكار الظواهري.
كانت القضية الفلسطينية حاضرة بقوة أيضاً، من خلال الانتفاضة الثانية التي استُشهد فيها آلاف من الفلسطينيين ومقتل المئات من الإسرائيليين. وبعد أن انتهت القوات الأميركية من تدمير النظام العراقي الصدامي، استطاعت الإدارة الأميركية وضع حدّ للانتفاضة الفلسطينية التي اندلعت عام 2000، لتنتهي عام 2005 بالاتفاق التاريخي الذي عُقد في قمة شرم الشيخ والذي جمع الرئيس الفلسطيني المنتخب حديثاً محمود عباس ورئيس الوزراء الإسرائيلي أرئيل شارون.
قام الجيل الثاني "داعش" بتعديل الأولويات في استراتيجية جديدة، تقوم على مواجهة الشيعة، "العلقمي" الجديد حسب تعبير الزرقاوي، بعد اتهامهم بأنهم العنصر الذي ساعد "الصليبي" في حملته ضد العراق.
توّج الجيل الثاني من القاعدة، "داعش"، عملياته بإعلان ولادة "الدولة الإسلامية"، متحدياً النظام العالمي، ليرفع شعار "الخلافة" التي لا تقيم للحدود وزناً أو قيمة. فإذا كانت عملية 11 سبتمبر/أيلول هي تتويج لعمليات عديدة طيلة 10 سنوات من الصراع بين "القاعدة" وأميركا، كاستهداف السفارتين والمصالح الغربية وبارجة كول في اليمن، لتمثل تحدياً للنظام الاقتصادي العالمي؛ فإن إعلان "داعش" "الخلافة" هو تحدٍّ صريح للنظامين الأمني والعالمي، خاصة بعد استهدافها المدنيين في أوروبا والولايات المتحدة، وهو تتويج للصراع الذي دار بينهم وبين القوات الأميركية في العراق طيلة 10 سنوات أيضاً، المدة الزمنية نفسها التي عاشها الجيل الأول.
يبقى أن نتتبع سياق الأحداث لمعرفة تاريخ ولادة الجيل الثالث لـ"القاعدة"، فالأحداث تنبئ بذلك. الغزو الروسي لسوريا لا يمكن أن نُخرِجه من سياق غزو القوات الأجنبية للمنطقة. فالدور الذي تلعبه روسيا بسوريا اليوم، لعبته الولايات المتحدة في العراق، المتمثل بـ"الحرب على الإرهاب"، وما ينتج عنه من ظلم يلحق بالشعوب في المنطقة. والقضية الفلسطينية حضرت بقوة اليوم أيضاً، من خلال الكلام المنتشر عن "صفقة القرن"، أو إعلان ترامب القدس عاصمةً لدولة "إسرائيل" المزعومة.
نحن على أعتاب هذه الولادة، وسيكون مخاضها سهلاً؛ نظراً إلى العوامل الكثيرة التي تتحضر والتي تسهل خروج الجيل الثالث.
فإذا كان الغزو الأميركي للخليج عام 1991، ومن ثم اتفاقية أوسلو عام 1993 هما العاملان لخلق الجيل الأول، ومن ثم الغزو الأميركي للعراق عام 2003 ومن ثم اتفاقية شرم الشيخ عام 2005 هما العاملان لخلق الجيل الثاني، فإن الغزو الروسي لسوريا، وحضور القضية الفلسطينية من خلال إعلان ترامب القدس عاصمة للكيان الإسرائيلي سيكونان العاملين لخلق الجيل الثالث.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.