لقد صعد المنبر وبدأ خطبته بذكر الله والثناء على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، استهل خطبته مُسترسلاً في بعض القضايا الهامة بزعمه، وعندما وصل إلى الطاعة وبند الولاء والبراء ما فتئ صاحبنا يذكر صاحب الجلالة أو الفخامة، صاحب المال والجاه والسلطان، طفق يلوم على منتقديه، ويحذر من مناهضة حكمه، وتبعات الخروج عليه، وأسهب في الحديث عن مناقبه، حتى إن صاحبنا نسي أو تناسى الحديث عن الله وعن ذكره!
إن الناظر إلى الخطباء اليوم يجدهم على أربعة أصناف:
الصنف الأول: مَن رسموا لأنفسهم طريق الحق والاستقامة لإحياء كلمة الله والوقوف عند حدوده، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، لا تأخذهم في الله لومة لائم، غير آبهين لشتى أنواع المضايقات التي قد يلقونها جراء جهرهم بالحق، وإبدائهم آراءهم وأفكارهم، يعلمون أنهم قد يُعَادوْن ويُسجنون، أو يُعذبون ويُقتلون، غير ضامنين سلامة أهلهم مِن بَعدهم، لكن تجدهم ثابتين راسخين رسوخ الجبال الرواسي، هؤلاء الذين رسموا معالم الطريق وعبّدوها لنمضي نحن نحو التغيير بخطىً واثقة.
الصنف الثاني: أتباع الأنظمة أو ما يُعرفون بعلماء السلاطين ودعاتهم، يصعدون المنبر ليصيغوا للناس دينهم بمقاس حاكمهم ونظامه، فربما يُحِلّوُن الحرام ويُحَرِّمُون الحلال من أجل استرضاء صاحب السُلطة أو المسؤول، هذا ليس بالضرورة، لكن الأدهى من ذلك أنهم يؤدلجون عقول العوام من الناس بأشياء فارغة المعنى والمضمون جملة وتفصيلاً، يبيعونهم الوهم تزلفاً للحاكم وطمعاً في رضاه، أو ظفراً بمنصب ما، أو لربما لا ينالهم من ذلك شيء؛ فقط ليتفادوا سخط وغضب السلطان أو النظام؛ ليكونوا بذلك من الحمقى الذين يبيعون آخرتهم بدنيا غيرهم.
هذا الصنف من الخطباء لا يَرقوْن أبداً لمسمى خطيب أو داعية، هم مجرد أبواق أو أدوات بيد السلطة؛ بل قد يتحولون إلى عبيدٍ من حيث يشعرون أو لا يشعرون؛ لأنهم لم يفهموا العنصر الثالث من عناصر التوحيد؛ ألا وهو الحكم.
الصنف الثالث: مَن يصعدون المنبر ليؤجِّجوا مشاعر الناس ويدغدغوا عواطفهم نحو قضية من القضايا التي عفى عليها الزمن وطواها في غياهب الماضي، لا تصلح ولا تنطبق على زماننا بالمطلق، والعجيب أنك تراهم يسردون قصص الحضارات الغابرة والعصور القديمة ويدعون إلى اتباع نهجها، وكأنها هي المنقذ الوحيد لِما يستشري في الأمة اليوم من آلام وأحزان، ومن العجيب أيضاً أنهم يُسقطون النصوص الشرعية على الواقع تبعاً لهواهم.
أما البعض الآخر من هذا الصنف، فيلقي كل أوجاع الأمة وتخلفها على سبب واحد؛ ألا وهو الابتعاد عن كتاب الله عز وجل وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم فقط، وإن كان هذا هو السبب الرئيس، لكن لا يصح أن يُختزل بعيداً عن أسباب أخرى لها أهميتها أيضاً، كترك الأمة كل مقومات النهوض من تعليم وعدل وعمل وإنتاج وحرية… إلخ.
فالرجعية المتبعة اليوم تسوق المجتمع نحو إلغاء لغة العقل، وعدم إعماله، واستخدامه للوظيفة المنوط به؛ لذا يجب عند ذكر مصائب الأمة أن تُطرح الحلول مصاحبة للمشكلة، فسرد المشكلة من غير حل لها خطر جسيم على عقول وسلوك الناس، كمثل الخطيب الذي يحذر من ظاهرة معينة لافتة للشباب وفيها من الإغراءات ما فيها، لم يكن يشعر بها الشباب مسبقاً فأصبح وكأنه داعٍ إليها عن غير قصد.
الصنف الرابع: من شددوا في الدين، ومَن ميّعوا:
فأما المتشددون، فهم الذين يصورون للناس الدين كسجن وقيد ذي أغلال وسلاسل، فيه من الحرام والشبهات أكثر مما فيه من الحلال والمباح، فهذا النوع من الخطباء والدعاة ينتج عنهم -إذا اخترقوا قلوب وعقول الناس- ظاهرتان خطيرتان؛ الأولى دفع الناس إلى بُغض بعض تشريعات الدين، وإلى التملص منها، وهؤلاء ينطبق عليهم قول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: "إن انتشار الكفر في العالم يحمل نصف أوزاره متدينون بغّضوا الله إلى خلقه بسوء صنيعهم وسوء كلامهم". وأما الظاهرة الثانية، فتكمن في صياغة عقول صلبة متحجرة عقدياً وفكرياً، كأمثال "داعش" وأخواتها.
وأما المميّعون، فهم الخطباء الذين يُعرّفون الدين بأنه علاقة بين العبد وربه، ولا دخل له بشؤون الدنيا ولا بالسلوك والمظاهر قيد شعرة، مستدعين بذلك النمط الغربي بعد الثورة الفرنسية، يُشكلون للناس الدين بما يتوافق مع توجهاتهم الفكرية الممزوجة بالفكر الغربي المادي، وهنا فإني لا أدعو إلى ترك الأخذ من الغرب بما لا يُناقض عقيدتنا وثقافتنا الإسلامية، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، لكني في الوقت نفسه أحذر من الذوبان في ثقافتهم التي تمس جوهر ديننا الحنيف كمسلمين.
الدعاة والخطباء يجب أن يكونوا بوابات تختلف في الاتجاهات، لكنها تؤدي في النهاية إلى طريق واحد: "الصراط المستقيم"، كما يجب أن يكونوا محبِّبين للدين لا منفِّرين منه، لا سِيَّمَا ونحن نعاني كثرة الانحرافات الفكرية والسلوكية والأخلاقية، واختلاط المفاهيم وانتفاش الباطل على الأصعدة والمستويات المحلية والإقليمية والدولية كافة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.