لم تكن تتخيل الممثلة الصربية مارينا أبراموفيك أنها ستعيش أسوأ ساعات عمرها بإرادة كاملة، عقب قيامها سنة 1974 بخوض تجربة لتتعرف كيف يتصرف البشر إذا مُنحت لهم حرية القرار والتحكم في مصير الآخرين ومن دون مساءلة.
قررت أن تقف 6 ساعات متواصلة ومن دون حراك، ولمن يحضر إلى المكان حرية أن يفعل بها ما أراد، وتنازلت عن حقوقها القانونية والأخلاقية، وتعهدت بتحمُّل نتيجة هذه التجربة ودون أن تحاسب أحداً، ووضعت بجانبها طاولةً بها العديد من الأدوات؛ منها سكين ومسدس والأزهار وأشياء أخرى.
في بداية الأمر، كانت ردود الفعل طبيعية وسلمية، وبدأ الحاضرون بالوقوف أمامها ومشاهدتها، ولكن بعدما تأكد الجمهور أنها لا تقوم بأي رد فعل، أصبح الحضور أكثر رغبة في إجبارها على القيام برد فعل، ثم تحول الأمر إلى العدوانية، وبدأت تزداد الإعتداءات الجسدية حتى وصلت إلى الاعتداءات الجنسية أمام الكاميرات، فقاموا بتمزيق ملابسها، ولمس صدرها وأعضاء جسدها، وقام أحدهم بوضع المسدس على رأسها وقاموا بضربها بأشواك الأزهار! واستخدم آخرون سكاكين وشيفرات الحلاقة الموجودة على الطاولة في إحداث جروح بجسمها ووجهها.
انتهت الساعات الست، وأخيراً تحركت مارينا، ومع إعلان انتهاء التجربة، وبمجرد أن بدأت بالتحرك بدأ الحضور بالفرار، وكان يكفي مارينا أن تنظر إلى وجوههم ليهرب الشخص؛ خوفاً أو خجلاً أو ما شئت أن تسمي فسمّه.
هل نحتاج في فلسطين إلى تجربة مارينا الصفرية لنعلم أن الحرية حق لا يُوهب ولا يُعطى، إنما يُنتزع انتزاعاً؟ هل نحتاج إلى هذه التجربة لنعلم أن الصمت والقبول بالأمر الواقع والرضوخ للإملاءات الإسرائيلية لن يجلب لنا وطناً؛ بل سيحولنا إلى مجموعة من العبيد تعيش وتتعايش تحت الاحتلال؟
إلى متى يجب أن نسير خلف هذه السياسة التي تتغنى بها القيادة السياسية، وأنهم لم ينجروا إلى المقاومة، وأنهم متمسكون بخيار التفاوض وفقط، التفاوض ولا بديل عن التفاوض إلا التفاوض.
وهنا، لا نقول إن التفاوض عيب أو جرم، ولكن التفاوض لا يكون بين ضعيف وقوي، فما الحاجة إلى هذا التفاوض، فالقوي يفعل ما يريد وضعيف عليه أن يجيب.
ألا يجب أن نخجل عندما يخرج علينا بعض القادة السياسيين ويقول: نحن نقدم احتلال ديلوكس للإسرائيليين! أو يخرج رئيس الدولة ويقول: أنا أعيش تحت البسطار الإسرائيلي؟!
كم أتمنى أن يكون لهذه التجربة الصفرية وقت، لا أشك في أن مارينا ندمت على جعل وقت تجربتها 6 ساعات، ولماذا لم تجعلها وقتاً أقل؟ لا يوجد لديّ أدنى شك في أن مارينا كانت تعلم أن هناك نفوساً ضعيفة، وأن هناك من سيعمل على مضايقتها، ولكنها كانت على يقين بأن هناك من سيدافع عنها ويرفض هذا الاعتداء.
ولكن الحقيقة كانت صادمة، فلم يبقَ أحد من الحاضرين إلا وشارك في الاعتداء بشكل أو بآخر، حتى من كان يشرف على التجربة لم يحاول إيقافها، وإعلان أن التجربة انتهت، رغم معرفة نتيجة التجربة بعد أقل من ساعتين، لماذا يفعل ومارينا لا تُظهر رد فعل؟! فما زالت صامدة تقبل ما يجري لها، متنازلةً عن حقوقها.
كم من الوقت يحتاج القادة السياسيون الفلسطينيون ليدركوا أن قبولهم الوضع القائم ومحاولة العيش والتعايش لن يفيدا القضية الفلسطينية، وسيبقى الحال على ما هو؟ فلماذا لا يضع رجال السياسة وقتاً لهذه التجربة التي أنهكت الشعب الفلسطيني؟
أما آن لرجال السياسة والقادة الفلسطينيين أن يخطوا الخطوة الأولى بعيداً عن العيش والتعايش وقبول الأمر الواقع؟ أما آن أن نتحرك وننظر في وجه من يقف حولنا ويشارك في احتلال أرضنا وسرقة خيراتنا، فلا يحتاج الأمر أكثر من إرادة ومعرفتك حقوقك، وتأكيد المطالبة بها؟
لماذا يصر القادة الفلسطينيون على أن الشعب الفلسطيني غير قادر على تحمُّل تبعات المواجهة مع المحتل؟! لِم يصر القادة على أن العيش تحت الاحتلال أفضل من الحرية بوطن مدمر؟!
نعم، المواجهة ستجلب الدمار والقتل، والتفوق العسكري للمحتل لا ينكره أحد، ولكن ماذا فعل هذا التفوق للفرنسيين في الجزائر؟ ثار الجزائريون وقُتل ما يزيد على 3 ملايين جزائري، مليون منهم في عام واحد، ودُمرت الجزائر، ولكنها نهضت بعد الاحتلال الفرنسي، واستمرت الجزائر حرة بشعب حر، ما الثمن الذي تخشاه القيادة الفلسطينية؟
قد يقف أحدهم ويقول: ألا يكفينا 7 ملايين لاجئ ونازح فلسطيني، تريد أن نذهب إلى المواجهة مع المحتل؛ كي ينزح من بقي في فلسطين؟! الجواب يأتي من غزة، حصار خانق، 3 حروب طاحنة، الشعب فقدَ كل مقومات الصمود، على أرض لا يمكن أن تنتج ما يوفر الاكتفاء الذاتي لساكنها، ومع ذلك لم ينزح ولم يهرب أحد، لقد تغير تفكير الشعب الفلسطيني، وأصبح على يقين بأنك تقاوم على أرضك، ولا تهرب، ولا تصدق أن هناك من سيأتي ويعيدك إلى بيتك، دافع عنه وابقَ صامداً، عش على أنقاض بيتك المدمر، أو لتكن أنقاضه قبرك.
حقيقة الموقف أن القيادة الفلسطينية الحالية قيادة مهزوزة، أضعف من إرادة هذا الشعب، فما زالت تعيش أجواء النزوح والهروب، ما زالت تحتفظ في ذاكرتها بالمذابح والمجازر الإسرائيلية، والضعف العربي الذي ساهم في ضياع فلسطين، حتى أصبحت لا تصدق أن إسرائيل هُزمت على أعتاب غزة في 3 حروب.
لا تصدق أن المقاومة الفلسطينية تنتج مصادر قوتها وتمتلك قوة ردع، لم تصدق أن المقاومة الفلسطينية كسرت كل المحرمات الإسرائيلية، فقصفت تل أبيب؛ بل إن صواريخ المقاومة تطول الأراضي المحتلة بالكامل، حتى باتت هذه القيادة على يقين بأن بقاءها مرهون بمقدار الرضاء الإسرائيلي عنها، فأصبح طلباً طبيعياً نزع سلاح المقاومة الفلسطينية من أجل إتمام المصالحة الفلسطينية.
فمن يقبل أن يعيش حياة العبيد فلن يعيش حراً حتى لو ملك صك حريته، ما لم يكن يؤمن من داخله بأنه إنسان، فما بالك بقيادة تؤمن بأن عليها العيش والتعايش تحت بسطار الاحتلال.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.