نفق مظلم أم طريق لم تُعبَّد بعدُ؟
لقد نجح التونسيون بعد ثورة 14 يناير/كانون الثاني 2011 في تجنيب البلاد مخاطر الانزلاق نحو هاوية الاقتتال والتصفية وتسييد قانون التشفي وانتزاع الحقوق المغتصبة بالحديد والنار.
فولد من رحم مجلسها التأسيسي مقاربة صيغت في شكل قانون وهو القانون الأساسي عدد 53 لسنة 2013 المؤرخ في 24 ديسمبر/كانون الأول 2013 والمتعلق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها.
فكان الفصل الأول في تعريف العدالة الانتقالية على معنى هذا القانون بأنها "مسار متكامل من الآليات والوسائل المعتمدة لفهم ومعالجة ماضي انتهاكات حقوق الإنسان بكشف حقيقتها، ومساءلة ومحاسبة المسؤولين عنها، وجبر ضرر الضحايا، ورد الاعتبار لهم بما يحقق المصالحة الوطنية، ويحفظ الذاكرة الجماعية ويوثقها، ويرسي ضمانات عدم تكرار الانتهاكات، والانتقال من حالة الاستبداد إلى نظام ديمقراطي يساهم في تكريس منظومة حقوق الإنسان".
إلى هذا الحد تبدو حياة التونسيين والتونسيات -ضحايا كانوا أو جلادين- وردية! فالجميع ينعم بالأمن والأمان في مساحة مكشوفة بأنوار ليلية وضوء شمس يكشف كل الخبايا وأمل في موسم حصاد لقانون معطاء، خيره وفير يُنسي الجميعَ سنوات القحط والظلام.
هذا هو المأمول والمنتظر، سواء من الضحايا أو من المشرع، إلا أن الواقع قد يعكس صورة أخرى من القتامة والسوداوية، وهواجس كثيرة ما كانت لتخطر ببال لولا تتالي الأحداث وتراكمها.
النقطة الأولى
في مرحلة أولى، تقدم التونسيون والتونسيات إلى هيئة الحقيقة والكرامة وأدلوا بشهاداتهم في جلسات استماع سرية، ووعدتهم الهيئة بأن تكون إفاداتهم سرية، فتضمنت في هذه الشهادات جملة من الانتهاكات، مثل الاغتصاب والتحرش الجنسي والمفاحشة. والحديث أحياناً عن خصوصيات العائلة وحتى الأقارب والجيران، خاصة ملفات النساء في مجتمع عربي تقليدي.
السؤال: إلى أين سوف تذهب هذه الشهادات؟
المشرع يقول: "الفصل 68 – تختتم أعمال الهيئة بنهاية الفترة المحددة لها قانوناً، وتُسلِّم كل وثائقها ومستنداتها الى الأرشيف الوطني أو إلى مؤسسة مختصة بحفظ الذاكرة الوطنية تحدث للغرض.
من الناحية الأخلاقية، لا يمكن إحالة مثل هذه الوثائق إلى الأرشيف الوطني وإطلاع العموم عليها. ومن الناحية القانونية، يمكن إنشاء مؤسسة تحدث في الغرض، وهي أول إحالة إلى ما بعد هيئة الحقيقة والكرامة، يبقى السؤال: متى وكيف؟
النقطة الثانية
بالنسبة للتعويض المادي لضحايا الاستبداد، فقد نص القانون في فصله الـ41 على "إحداث صندوق يطلق عليه صندوق (الكرامة ورد الاعتبار لضحايا الاستبداد)، تُضبط طرق تنظيمه وتسييره وتمويله بقانون".
إذن، هيكل ثانٍ يشرع القانون إحداثه لغرض تحقيق كرامة ضحايا الاستبداد.
النقطة الثالثة
حفظ الذاكرة الوطنية "الفصل الـ63: تتكفل لجنة حفظ الذاكرة… إقامة النشاطات والتظاهرات الهادفة إلى حفظ الذاكرة الوطنية لضحايا الانتهاكات ونشر قيم التسامح والمواطنة واحترام حقوق الإنسان ونبذ العنف".
وعليه، فإن شريط الذاكرة الوطنية لن يكتمل إلا بإنهاء الهيئة مهامها وإتمام المسح الكلي.
سؤال أول: متى يكون للجنة حفظ الذاكرة الوقت لإقامة النشاطات والتظاهرات ونشر القيم التي تتطلب سنين لترسيخها عبر الأجيال؟
سؤال ثانٍ: حتى لو اعتمدنا على التوصيات المقدمة من قِبل اللجنة وإنشاء لجان أخرى في وزارات متعددة، فإن الهدف السامي من حفظ الذاكرة سوف يتشتت ويضيع في متاهات الأولويات والموازنات وربما حتى التجاذبات… فهل يمكن أن تكون التوصيات دافعة إلى إنشاء مؤسسة خاصة بحفظ الذاكرة على هذا المعنى؟
النقطة الرابعة
ملاحظة أولى: في البداية، لا بد من الإشارة إلى السياق العام الذي اختاره التونسيون، وهو الاستمرار وعدم القطع والتشفي في المنظومات السابقة، حتى إننا نرى اليوم وزراء من المنظومة السابقة وزراء مباشرين لمهام تنفيذية، فهل نستطيع ائتمانهم على تنفيذ مقررات الهيئة بنفس إيجابية تعترف بتضحيات الضحايا وتحرص على معالجة ضررهم؟
ملاحظة ثانية: ليست هيئة الحقيقة والكرامة من ينفذ برنامج جبر الضرر ولا من يشرف عليه ولا على تنفيذ قراراتها.. الفصل الـ70 من قانون العدالة الانتقالية: ʺتتولى الحكومة خلال سنة من تاريخ صدور التقرير الشامل عن الهيئة وإعداد خطة وبرنامج عمل لتنفيذ التوصيات والمقترحات التي قدمتها الهيئة، وتقدَّم الخطة والبرنامج إلى المجلس المكلف التشريع لمناقشتها، ويتولى المجلس مراقبة مدى تنفيذ الهيئة الخطة وبرنامج العمل من خلال إحداث لجنة برلمانية خاصة للغرض تستعين بالجمعيات ذات الصلة؛ من أجل تفعيل توصيات ومقترحات الهيئة.
هنا، لا بد من الوقوف على معطيين أساسيين:
الأول: هناك فترة فراغ زمني بين نهاية الهيئة وبدء الحكومة تنفيذ البرنامج قد تمتد إلى سنتين، سيتعطل خلالهما الفصل الـ12 من قانون العدالة الانتقالية.
فضحايا الانتهاكات أغلبهم وضعيات خاصة يحتاجون إلى رعاية صحية تمتد إلى الحالات النفسية الخاصة ومساعدة اجتماعية باعتبار دخلهم المحدود إلى المعدوم أحياناً، ولعل الرقم 5 آلاف إلى حدود أكتوبر/تشرين الأول 2017، الذي تتحدث عنه هيئة الحقيقة والكرامة في غياب آليات الدولة، التي من المفروض أن تعترف بهم.
يمكن القول إن الدولة قائمة وستحال الملفات إلى وزارة الشؤون الاجتماعية.
هناك اعتراض وتحفظ؛ الاعتراض: الديكتاتوريات تستعمل المسالك الاجتماعية لتركيع المواطنين ودفعهم إلى تقديم تنازلات حتى يصبحوا ʺشبيحةʺ وتباع ذممهم من أجل قفة رمضان أو مساعدة العودة المدرسية، وحتماً تونس لم يكتمل انتقالها بعد، والخشية كل الخشية من تحويل الظواهر النضالية إلى حالات اجتماعية.
أما التحفظ، فوزارة الشؤون الاجتماعية فشلت في إغلاق بعض ملفات التسبقة على جبر الضرر، في حين أن الملفات موجودة والقوائم نهائية والأموال مرصودة.
ما زلنا في التحفظ، نحن نعيش التداول على السلطة حسب نتائج الصندوق، فمن يستطيع التنبؤ بالفريق الحاكم الذي سوف يجتهد أو يتهاون في تنفيذ قرارات هيئة الحقيقة والكرامة.
تجربة البيرو تعطلت باعتبار غياب الإرادة السياسية الصادقة لتنفيذ قرارات هيئة الحقيقة والمصالحة، ولا يزال الضحايا يعانون إلى اليوم على الرغم من إدراج حقوقهم في قانون التعويضات.
بناء على ما تقدم، يبدو واضحاً وجلياً أن الموارد المتاحة محدودة، واحتياجات الضحايا مختلفة، والانتقال لم يكتمل بعد، وضرورة قيام هيئات دستورية وتعديلية فيها ضمانة للديمقراطية الناشئة والابتعاد عن التجاذبات، التي قد تعيد الوطن إلى مربع سيئ، ومن بين هذه الهيئات يمكن أن نُوجد مؤسسة مستقلة، ولست بصدد الحديث عن التمديد أو التوريث وإنما هيئة دستورية مستقلة تسهر على تنفيذ قرارات هيئة الحقيقة والكرامة، خاصة -كما أسلفنا الذكر- أن مسألة حفظ الذاكرة فيها جانب من الخصوصية، كذلك تعدد الأوجه ومجالات التدخل لصالح الضحايا، ولعل الجوهر في ذلك هو تثمين قيمة النضال في هذا الوطن.
يبقى السؤال: هل يعي ضحايا الاستبداد هذا النفق المظلم المنتظر عند منعطف الطريق؟ وهل يستجيب أنصار الضحايا من البرلمانيين لفكرة طرح مبادرة تشريعية لإحداث مؤسسة أو هيئة حاملة لاسم الكرامة والذاكرة النضالية؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.