كان الليل الناعس قد بسط رداءه على تلك المنطقة الهادئة في غرب المدينة، وبينما كانت إحدى غارات الاحتلال قد بدأت تحلق في سماء القاهرة؛ كان الإمامان محمد عبده وحسن البنا يتوسطان حجرة صغيرة في الطابق الثاني لبناية قديمة آثر ساكنوها هجرها سريعاً فور انطلاق صافرات الإنذار متجهين صوب القبو الآمن.
قنديلان كانا يضيئان الغرفة التي تكدست بكتب ومخطوطات هنا وهناك، على الأرفف وفوق المنضدة وحتى تحت الكراسي الخشبية، كان حسن البنا بجلبابه الرمادي يسير ببطء داخل الغرفة ممسكاً بمجلد مفتوح ومحاولاً التركيز في قراءة بعض السطور في إضاءة باهتة، ومحمد عبده يجلس في زيه الأزهري الكامل على كرسي كبير واضعاً قدماً فوق الأخرى، ومتأملاً لنقطة على الحائط المشروخ المقابل له؛ نقطة صنعها خياله المشحون بالأفكار.
أخذ البنا يطمئن إلى إحكام الستارة المخملية للنافذة، ويسدد نظرات سريعة للسماء التي بدأت تطنُّ بصوت الطائرات وللطريق المظلم الخالي تماماً من الحركة، فيما تحدث عبده بصوت واثق:
"لا يا حسن لقد كنتُ دقيقاً في صياغة برنامج الحزب.. وأتذكر جيداً ما كتبته حينها".
سكت عبده لحظات مس أثناءها لحيته البيضاء، ثم أردف: "لقد كتبتُ: الحزب الوطني حزب سياسي لا ديني؛ فإنه مؤلَّف من رجال مختلفي العقيدة والمذهب، وجميع النصارى واليهود، وكل مَن يحرث أرض مصر ويتكلم لغتها منضم إليه؛ لأنه لا ينظر لاختلاف المعتقدات، ويعلم أن الجميع إخوان، وأن حقوقهم في السياسة والشرائع متساوية، وهذا مسلَّم به عند أخص مشايخ الأزهر الذين يُعَضِّدون هذا الحزب، ويعتقدون أن الشريعة المحمدية الحقة تنهى عن البغضاء، وتعتبر الناس في المعاملة سواء".
بينما أعدّ البنا على الموقد الصغير كوبَي شاي له ولأستاذه أردف بابتسامة هادئة: "يا شيخ محمد.. كثير من الناس فهموا ما عنيتُه بالحزبية على وجه خاطئ؛ لقد كنت أذم تلك الحزبية التي تفرقنا عن هدفنا الوطني الأكبر؛ وهو طرد المحتل، ولم أكن أعني…".
قاطعه عبده قائلًا: "يا حسن…". تنهَّد بعمق ثم تابع: "أنت تستبطن في عقلك أفكاراً تستعلي على المجتمعات؛ وتلك الأفكار لن تنهض بالأمة أبداً.. إنما كل عوائد نجاحها على تنظيمك الذي يتزايد عدده؛ هل تعتقد أنه سيحل يوماً ما بديلاً عن المجتمع؟!".
كانت كلمات عبده قد بدأت تتخللها بعض الحدة، فردّ عليه البنا في ذات الهدوء: "الله عزوجل يقول في كتابه: (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون)؛ إني أتعجب من كلماتك يا شيخ محمد أتريدني أن أترك مجتمعاً لم يفهم الإسلام الشامل على حقيقته ليُفرِز من يريد، وألا أنأى بأتباعي عن أوحال بعده عن الإسلام؟!".
ضيَّق عبده حدقتيه ومشيراً بسبابته رد قائلاً: "أنت تجيد إنزال النصوص القرآنية في غير محلها..". ارتشف عبده من كوبه رشفة ثم تابع: "الخطاب القرآني الموجَّه للفئة المؤمنة تسكيناً لخواطرهم في مواجهة "الكفر" وأهله؛ يختلف معناه تماماً عن إسقاطك له في مجتمع يدين بالإسلام، ولكنه ينحرف عنه ولا يلتزم به…".
سكت عبده قليلاً ثم أردف مرة أخرى بطريقة حانية: "يا حسن.. كل ما نتحدث عنه من الحزبية ونظرة المصلحين للآخرين من حولهم وكيفية إدارة أمور الشأن العام وغيرها هي من اجتهادات السياسة التي توجب عليك أن تُميِّز في تعاطيها بينها وبين أمور الدين".
قطَّب البنا حاجبيه على الفور وردً منفعلاً: "الإخوان ما كانوا يوماً من الأيام غير سياسيين ولن يكونوا يوماً من الأيام غير مسلمين، وما فرقت دعوتهم أبداً بين السياسة والدين، ولن يراهم الناس في ساعة من نهار حزبيين".
سكت البنا لحظة ثم تابع في ذات الانفعال: "(وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين)، ومحال أن يسيروا لغاية غير غايتهم أو يعملوا لفكرة سوى فكرتهم، أو يتلوّنوا بلون غير الإسلام الحنيف (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون)".
كان عبده يسمع بإنصات وشبح ابتسامة ترتسم على ثغره، وما إن وصل البنا إلى كلماته الأخيرة واستشهاداته الفضفاضة ذاتها، فانطلقت منه ضحكة لم يتمالك كتمانها.
ساد الصمت لحظات، ثم تحدَّث عبده بعد أن هدأ قليلاً: "يا حسن أنت مُصِرٌ على الإجابة على سؤال لم يطرح أصلاً.. أنت..".
قاطعه البنا بيده ثم تحدث بطريقة جادة منفعلة: "يا شيخ لا قيمة لقول الخطيب كل جمعة على المنبر (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه) في الوقت الذي يجيز فيه القانون السكر وتحمي الشرطة فيه السكيرين، وتقودهم إلى بيوتهم آمنين مطمئنين…".
سكت البنا لحظات التقط فيها أنفاسه ثم تابع بهدوء: "ولهذا كانت تعاليم القرآن لا تنفك عن سطوة السلطان، ولهذا كانت السياسة جزءاً من الدين".
صمت عبده قليلاً ثم تنهد وبدأ يرد على البنا أخيراً: "هل تعلم يا حسن أنني أحبك كثيراً، وأعشق حماستك لفكرتك ولسانك ذا البيان الفصيح.. ولكن يا حسن…".
تنهَّد عبده تنهيدة عميقة أردف بعدها بهدوء: "لم يُسمع في تاريخ المسلمين بقتال وقع بين السلفيين والأشاعرة مع الاختلاف العظيم بينهما، ولا بين هذين الفريقين من أهل السنة والمعتزلة، مع شدة التباين بين عقائد أهل الاعتزال وعقائد أهل السنة سلفيين وأشاعرة. كما لم يُسمع بأن الفلاسفة تألَّفت لهم طائفة وقع الحرب بينها وبين غيرها. نعم سُمِع بحروب تُعرَف بحروب الخوارج، كما وقع من القرامطة وغيرهم".
سكت عبده ثم أشار بسبابته في وجه خالٍ من التعبيرات وأردف: "وهذه الحروب لم يكن مُثيرها الخلاف في العقائد، وإنما أشعلتها الآراء السياسية في طريقة حكم الأمة، ولم يقتتل هؤلاء مع الخلفاء لأجل أن ينصروا عقيدة، ولكن لأجل أن يغيروا شكل حكومة. وما كان من حرب الأمويين والهاشميين فهو حرب على الخلافة، فهي بالسياسة أشبه، بل هي أصل السياسة؛ إنه لم تقع حرب معروفة بين المسلمين للحمل على عقيدة من العقائد أو على تركها".
هزّ البنا في ضيق رأسه متفهِّماً الفكرة ومنتظراً تجاوزها، فيما تابع عبده حديثه: "سياسة الدولة العثمانية مع الدول الأوروبية ليست سياسة دينية، ولم تكن دينية قط من يوم نشأتها إلى اليوم، وإنما كانت في سابق الأيام دولة فتح وغلبة، وفي أخرياتها دولة سياسة ومدافعة، ولا دخل للدين في شيء في معاملتها مع الأمم الأوروبية".
كان عبده قد بدأ يسهب في الحديث، فأردف: "فإن شاء قائل أن يقول: إن الدين لم يعلمهم التجارة ولا الصناعة ولا تفصيل سياسة الملك ولا طرق المعيشة في البيت، لم يسعه أن ينكر أنه أوجب عليهم السعي إلى ما يقيمون به حياتهم الشخصية والاجتماعية، وأوجب عليهم أن يحسنوا المملكة".
ظل الحديث بينهما متواصلاً، تتخلله حيناً نسمات من الهدوء، فيما كانت تتملكه أحياناً أخرى عواصف كلامية وسجالات فكرية.
وبينما ظلت أصوات الطائرات الحربية تتعالى في الأجواء والسماء تطلق رعداً مخيفاً.
كان الشارع المظلم الذي لم تبدُ ملامحه بغير انعكاسات بدر مراهق قبيل ليلة التمام ظل نوره يحبو من بين البيوتات، وفي تلك الأثناء دوى صوت قوي جهور في المكان: " كااااااااااااات"! .. " بريك يا حضرات نص ساعة"!!. أضاء المكان كوضح النهار وعادت له الحركة والحياة في لحظات وتوقفت آلة إصدار هزيم الرعد كما سكن صوت طنين الطائرات.
كان الصوت الأخير لمخرج فيلم "خيال فكري" جمع الإمامين وجهاً لوجه!
أو ربما كان الأمر نقاشاً حقيقياً دار بينهما في غير عالم الأحياء؛ فمحمد عبده قد وافته المنية قبل ميلاد حسن البنا بعام واحد؛ فلم يتسنَّ للعملاقين اللقاء في دنيا الناس!
المهم أن الإمامين كانا موسوعيي الاطلاع ولكل منهما كانت نظرات إصلاحية تجديدية؛ غير أن البنا ذاع صيته ببلورة فكرته بتنظيم شمولي يحملها جيلاً بعد جيل، فيما اهتم عبده بنداءات الإصلاح المجتمعية التي لا يختص بها فصيل أو يحتكرها تنظيم.
في فكر محمد عبده كان التفريق جليّاً بين "الأمة السياسية" التي تجتمع بتنوع أعراقها وأديانها في قطر جغرافي محدد، وبين "الأمة الدينية" التي تجمعها روابط العقيدة والأخوة، ولا تحدها حواجز الجغرافيا، وما يترتب على الأمر من أحكام فقهية وسياسية يسعها الاجتهاد.
في فكر محمد عبده كان اعتبار المجال السياسي مجال اجتهاد بشري، لا مجال أحكام وأشكال محددة بالوحي حين نزوله، وبالطبع دون أن يعني ذلك الخروج عن مراد الدين؛ وهذا معناه أن الإسلام يقبل في إطار مبادئ وموجهات عامة صيغاً مختلفة لممارسة السياسة وتدبير شؤون المجتمع، بالإفادة من التجربة الإنسانية؛ ما يحاول التوفيق بين مقتضيات الشريعة الإسلامية ومقاصدها وبين معطيات الفكر الحديث وواقعه.
برغم أن البنا قد صاغ نظريتة للتغيير في سن مبكرة للغاية (22 عاماً)، فإنه كان مُلهَماً ومُجدِّداً بحق، وحاملاً علامات النجابة والألمعية التي بها يرفع الواقع ويحدد المشكلة بدقة، ثم يستقي من مرجعيته ما يصوغ به مشروعه ثم يقوم بعمليات التقويم والمراجعة الدورية؛ فبعد مرور عقدين على تأسيسه لتنظيمه راجع كثيراً مما قاله مُسبقاً ومن بين مراجعاته كانت نظرته لممارسة السياسة. (راجع مقال د.عصام تليمة بعنوان "الإسلاميون وفصل الحزبي عن الدعوي")، وقبيل اغتياله بيومين ذكر الشيخ الغزالي أن البنا أخبره: (ليس لنا في السياسة حظ، ولو خُيِّرتُ في أمري، لعدت بالإخوان إلى أيام المأثورات).
لكن الأمر ليس كما يبدو على بساطته؛ فهو ليس محض مغادرة لميدان دون آخر، وإنما هي حاجة غدت اليوم تُلِحُّ على أبناء الحركة الإسلامية الذين تشربوا منهاج التغيير عند البنا على اختلاف تنظيماتهم؛ وهي مراجعة إرث فكري تناقله إسلاميو مدرسة البنا جيلاً بعد جيل كمُسلَّم ديني مقدس! فيما لم يحمل معظمه في الحقيقة سوى صفة الاجتهاد.
يُعد د. سعد الدين العثماني أحد رواد حركة التجديد في الفقه الإسلامي الوسطي السياسي المعاصر، وقد أسهب بشكل مبسط في عرض بعض ملامح التجديد في كتابه "الدين والسياسة – تمييز لا فصل"، وفي الكتاب أفرد فصلاً كاملاً للحديث عن الإمام محمد عبده؛ مستعيناً بمصادر ثرية كتبها العقاد وعمارة وبرهان غليون.
بالعودة للإمامين؛ فهل كان لنا أن نتخيل لقاءهما وأن نتطلع إلى مجدد يلتقي بآخر ليصوغا للإسلام مشروعاً فكرياً ينهل من معين النبوة ويتصالح مع الواقع على تعقيداته وتشابكه؟
هل كان لنا أن نتطلع إلى مشروع فكري إسلامي تجديدي يضيف إلى التجربة الإنسانية إبداعاً نهضوياً آخر، أم أنها نحو الجمود والتراجع خطوات كتبت علينا وعلى مجتمعاتنا المسكينة؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.