لعلّ من الطبيعي جدًا أن نقف نحن ضد وعد بلفور، ولكن مسألة مُعارضة اليهود لهذا الوعد هي لا شك مثيرة وتحمل الكثير في جُعبتها، ولم تكن صُدفة أبدًا، أن الدكتور عبد الوهاب المسيري خصص لهذه المسألة فصلًا كاملًا في الجزء السادس من موسوعته "اليهود واليهوديّة والصهيونيّة" التي عكف على تأليفها 25 عامًا من حياته، فلطالما تخيّلنا أن بلفور كان يُحب اليهود، ولهذا ساعد الحركة الصهيونية على إقامة "دولة لليهود" ولهذا كُنا نتخيّل أيضًا – بكُل سذاجة – أن يجتمع اليهود على حُب هذا الرجل الذي يُحبهم!
النُكتة، أننا لو عُدنا في الزمن 100 عام إلى الخلف، سنجد أن نسبة لا بأس بها من اليهود كانت ترى هذا الوعد مُعاديًا لهم، بالأخص أن بريطانيا بدأت قبل حوالي 15 عامًا من وعد بلفور (عام 1903) على سنّ قانون الغرباء الذي يهدف إلى الحد من هجرة اليهود "الييديشيّة" من شرق أوروبا إلى بريطانيا، وكان آرثر بلفور من الداعمين لهذا القانون!
في وزارة بلفور، كان هناك عضو يهودي واحد ووحيد هو السير إدوين مونتاجو، الذي وقف ضد إصدار هذا الوعد بشدّة، فكتب مذكّرة ينوّه فيها إلى ما ينطوي عليه هذا الوعد من كراهيّة لليهود، كما عارض فكرة الحديث عن أمّة يهوديّة، وبالإضافة إلى ذلك راح يُذكّر أن هذا الوعد سيضر بالمسلمين "المحمديّين" وحقوقهم في فلسطين، وقد أدت معارضة مونتاجو إلى تأخر صدور الوعد بضعة أشهر، فكان ينبغي أن يصدر في شهر شباط فصدر في شهر تشرين ثاني!
حتى ومع صدور الوعد، إلا أن المعارضة اليهوديّة لهذا الوعد المشؤوم استمرت، ففي الذكرى الثامنة والعشرون لصدور الوعد، أصدرت "عصبة مكافحة الصهيونية" التي يقوم عليها مجموعة من الشباب اليهود في العراق بيانًا تؤكد فيه أن الوعد سيحوّل نضال العرب الموجه ضد الاستعمار لينصب تجاه اليهود الذين سيتحولون إلى مُجرد "حاجز" يختفي الاستعمار خلفه، كما استنكر البيان "طيبة القلب الأوروبية" قائلًا: "لو كان المستعمرون يعطفون حقًا على اليهود لعاملوهم معاملة طيّبة في أوروبا!".
في أمريكا، نجد شكلًا آخر من المُعارضة، حيث بعثت مجموعة من اليهود البارزين رسالة إلى الرئيس ويلسون يحتجون فيها على فكرة الدولة اليهوديّة قائلين: "إن إعلان فلسطين وطنًا قوميًا لليهود سيكون جريمة في حق الرؤى العالمية لأنبياء اليهود وقادتهم العظماء". وعلى سيرة الجرائم، فإن واحدة من أبرز الجماعات المُعارضة لوعد بلفور هي جماعة نواطير المدينة – بالعبريّة: ناطوري كارطا- التي ترى أن دولة إسرائيل هي ثمرة الغطرسة الآثمة لأنها قامت على يد نفر من الصهاينة "الكفار" الذين يرتكبون خطيئة "التعجيل بالنهاية" (بالعبريّة: دحيكات هكاتس)!
هذا غير أن "نواطير المدينة" يرون أن الصهاينة تعاونوا مع النازيين حتى يقضوا على يهود شرق أوروبا الذين شكّلوا نواة مُعارضة الصهيونية، وهذه المسالة لم تشغل هؤلاء فقط، بل شغلت الكثير من معارضي الصهيونية مثل الحاخام فايسماندل الذي أثبت بالوثائق والبراهين تواطؤ القيادات الصهيونية مع النازي من أجل المساعدة على هجرة اليهود إلى فلسطين، والفكرة نفسها أكدها الكاتب اليهود ليني برينر الذي اتهم الصهيونية بأن تصرفاتها النفعية وتعاونها مع النازية أدى إلى مصرع مئات الألوف بل الملايين في سبيل إقامة دولة لليهود!
رغم قلّة هؤلاء اليهود، إلا أن الفلسطيني منّا إن بحث عمّن يكتب عن جرائم الصهيونية سيجد هؤلاء اليهود أنشط منّا في النشر باللغة الألمانية، وهُم كثر ولكنني أذكر منهم أبراهام ميلتزر صاحب مدوّنة "السامي" – بالألمانية: DER SEMIT – وإيفلين هيخت جالنسكي صاحبة كتاب "الوصيّة رقم 11: يحق لإسرائيل كل شيء" – بالألمانية: Das 11.Gebot: Israel darf ALLES – الذي يجمع كثير من مقالتها في مُعارضة الصهيونية، والذي قدّم الكتاب هو المؤرخ اليهودي إيلان بابيه صاحب كتاب "التطهير العرقي في فلسطين" الذي تُرجم للألمانية وكذلك العربية ويفضح الكثير من الجرائم الصهيونية!
النكتة أن إسرائيل، تستعد إلى جانب تجهيزاتها للاحتفال بمئوية بلفور في بريطانيا، أن تجهّز فريقا من العرب الصهاينة يُدعى "منتخب الأحلام الإسرائيلي" سيخرجون إلى الولايات المتحدة ليُقنعوا العالم من جديد بأن إسرائيل هي جنّة الديمقراطيّة وجيشها هو الأكثر أخلاقيّة.. بكُل سذاجة وحماقة، بينما هناك يهود يفعلون المستحيل ليُخبروا العالم عن جرائم الصهيونية.
هذه التدوينة منشورة على موقع الجزيرة مدونات
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.