ليست هنالك لحظة أحسن لاصطياد غضب الجمهور أكثر من لحظات خوفهم من زوال سلطتهم القوميّة وهزيمة قائدهم المحبَط أمام أعينهم.
في آخر أيامه كان القذافي مسكوناً بهاجس تراجع مراكز الجماهيريّة شعبياً، فأراد أن يكون ملكاً على إفريقيا ليسد ذلك التراجع.
اعتقد أنه معبود الجماهير، ثم أفاق على فشل استراتيجية العناد والشذوذ عن النمطية في كسب قلوب الجماهير.
إن غضب الجماهير لا يستقيم أن يرد بالعنف المسلح، بل لا بد من إعلان منع التجوال ونشر خطابات التهدئة من العقلاء؛ لأن القائد المحبط قد يحمي نفسه بقوة الجماهير المؤمنة به ضد السلطة الأمنية والقانونية، ويقلب الأحوال فيضع المواطن الغاضب مكان الشرطي، والفوضى مكان القانون.
اسمحوا لنا بهذه الجمل المختصرة، واحسبوها كما تشاؤون.
الذي حدث في المناطق المتنازع عليها أن حكومة إقليم كردستان هي التي اشترطت أنه بعد تحرير نينوى لا يدخل جندي أو يعبر جندي عراقي حدود ما بعد 2014.
والحديث كان برعاية التحالف الدولي قُبيل معركة "قادمون يا نينوى 2016″؛ حيث التقى بارزاني بالعبادي في بغداد.
ولم تبدأ بغداد بنقض عهدها إلا بعدما أعلنت كردستان عن عزمها إجراء استفتاء من أجل الاستقلال.
وهكذا أعلنت الحرب الجديدة من أربيل، ومعها بدأت مرحلة فرض الأمن والسلطة الاتحادية على 28 وحدة إدارة متنازع عليها وعلى مسافة حدودية بطول 1050 كم، في عملية سلمية نسقت لها وساطة إيرانية مع جناح بافل طالباني مع بغداد؛ حيث دخلت القوات الاتحادية إلى كركوك ليلة 16 أكتوبر/تشرين الأول 2017، كانت المسألة هي انسحاب قطعات من قوات البيشمركة من المناطق الجنوبية والغربية والشمالية الغربية في كركوك، ووصول قوات الاتحادية خلال يومين إلى الحدود الجنوبية الشرقية مع السليمانية وأربيل، معلنة، ببساطة لا مثيل لها، أن المناطق المتنازع عليها تحت العلم العراقي الاتحادي، وأن حكومة وبيشمركة كردستان اعتدتا على سلطة وثروات وأراضي تلك الوحدات الإدارية!
لذلك دخلتها القوات الاتحادية، مع دعم تركيا وإيران وأميركا أعلن الدكتور العبادي أنه ذاهب إلى فرض السلطة الاتحادية على جميع الأراضي جنوب الخط الأزرق الحدود الوهمية التي فرضها مجلس الأمن الدولي على نظام صدام ما قبل عام 2003 لحماية كردستان من العمليات العسكرية.
حسنا.. هذه مسألة تعني إذن "الدول الإقليمية والتحالف الدولي" وأي قوات دولية على الأراضي العراقية هي بخدمة القوات الاتحادية في عملية فرض القانون.
ماذا حدث منذ ليلة 23 أكتوبر في مناطق مخمور والكوير وديبكة وزمار وقرية المحمودية وفيشخابور؟ حدثت أشياء كثيرة، أفظعها أن البيشمركة فصائل مسلحة كردية من جنسيات غير عراقية فتحت النيران المتوسطة والثقيلة على القوات الاتحادية، وخطفت سرية من اللواء 75 الفرقة 16 جيش عراقي؛ حيث تمت معاملتهم بإذلال، وسقط هنالك عدد من الشهداء والجرحى، وخلال 72 ساعة بلغ عدد ضحايا الاشتباكات قرابة 38 شهيداً و50 جريحاً وفقاً لمصدر رسمي يعمل بالطبابة العسكري.
وأنتجت هذه الاشتباكات رعباً بين الأهالي من سكان تلك المنطقة، دفع بالمواطنين الكرد إلى النزوح؛ حيث بلغ عدد من نزح منهم أكثر من 175 ألف مواطن كردي تجاه محافظة أربيل.
ولم يكن على الفصائل الكردية غير العراقية أكثر من أن تشعل الفتيل، واتركوا الباقي للبيشمركة، في مخمور وربيعة، وفي زمار وفيشخابور، أدرك ذلك الدكتور العبادي واستجابةً لاقتراح عقد هدنة لمدة 24 ساعة لأجل التفاهم بين قيادة ميدانية من القوات الاتحادية وقيادة ميدانية من قوات البيشمركة وبحضور قيادات من التحالف الدولي، حيث تم التفاهم على جولتَي حوار، كان من أهم مخرجاتها انسحاب البيشمركة من مخمور وربيعة وزمار وفيشخابور، وأيضاً تأسيس إدارة مشتركة للمعابر والمنافذ الحدودية وتحت إشراف وسلطة هيئة الكمارك والمنافذ الاتحادية، الجزء الأهم من الحوار الذي حدث بين قيادات القوات الاتحادية وقيادات قوات الإقليم، هو تأسيس تفاهم قادر على تحمل مسؤوليّة الأزمة وتعطيل التصادم المسلح من خلال فرض القانون وترسيم قواعد الاشتباك بينهما.
إعلام الكراهية يحاول العودة بالعراقيين إلى أيام القتال القومي.
في السليمانية استطاعت الأحزاب عقد تفاهم مع الحكومة الاتحادية، وفي كركوك انهزمت الكراهية والناس يتفاعلون مع التعايش.
وأربيل أصبحت أكثر مرونةً لعلها تستمر إلى حد تنقاد به إلى الدستور، ما يقلق كل مراقب هو الفصائل المسلحة الكردية من جنسيات غير عراقية، والتي من الصعب التفاهم معها أو فرض القانون عليها إلا بقوة السلاح كونها فصائل إرهابية متجاوزة على أرض العراق.
حيث ستظل الأخوة الوطنية تمنع قادة بغداد من أن تأتي على ذكر نموذج الحكومات السابقة في التعدي على حقوق وكرامة شعبنا الكردي، حتى لا نفيق يوماً ونرى أننا في سوريا أخرى.
خطاب السيد مسعود بارزاني بعد رسالته إلى برلمان كردستان يثير قلق الشارع الكردي المناصر له ويدفع بالغاضبين منهم إلى موجة احتجاجات يصاحبها سلوك عنيف خارج القانون وتعدّ على الأملاك الخاصة للأحزاب الكردية المعارضة لقرارات بارزاني بالانفصال في دهوك وأربيل .
ففي الوقت الذي تنهمك فيه القوات الاتحادية في تحقيق فرض سلطتها على المُنشآت الاتحادية في المناطق المتنازع عليها، ينصرف بعض الكرد من أنصار بارزاني إلى التعدي على المؤسسات الصحفية والحزبية ويقتحمون بناية البرلمان بقوة السلاح الناري وتنصرف السليمانية إلى إعلان الإنذار الأمني؛ حيث أعلن السيد قوباد الطالباني أن "جميع قوات أمن إقليم كردستان في حالة استعداد تام وتأهب قصوى لمنع حدوث أي فوضى واضطراب في الإقليم".
صنّاع الكراهية لا يهتمون بمعاينة الأدلة والوثائق، هم ينقصون منها ويزيدون عليها ثم يشوِّهون الحقائق ويتحدثون عن مؤامرة فيها.
صنّاع الكراهية بلا علم، بل هم يعيشون زمن العاطفة الطاغية.
قنوات كردية تصف ما يحدثُ في جنوب إقليم كردستان بأنه مؤامرة حشدية! تفكير قطعاني.
يعتقد التحالف السني في بغداد أن العبادي استولى على جمهورهم، ويعتقد الجناح المتشدد في حزب الدعوة الحاكم أن كلّ شيء مؤامرة أميركية.
ويعتقد قادة أحزاب الأقليات أن حقوقهم تقاسمها الكبار، وأن إيران وحدها هي الركن الشديد.
وهكذا يتم التقسيم إقليم كردستان إلى إدارتين؛ إدارة موالية للمركز، وأخرى معارضة، والجماهير من القوميات غير الكردية في بغداد وكركوك وديالى ونينوى منشغلون بحرق أعلام وتعليق لافتات الشهداء والوحدة الوطنية والتعايش، ويستنكرون حمل السلاح بالضد من قوات فرض القانون، وكذلك يستنكرون خطاب القومي العنصري.
ولكن الحقيقة بعد كل هذه المقدمات، فإن هناك من يلمح لنا بأن العراق سيلحق بصف طويل من الدول: يوغوسلافيا وفيتنام والسودان والصومال.. ولكن مع حكمة العبادي وفرق مستشاريه ستكون بغداد نقطة وصل لا فصل.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.