"أعتذر، لقد قلت عنك (منافق)"، بمثل هذه الجملة صارحني الفتى النحيف، الذي لم يتجاوز عامه السابع عشر، والموقوف على خلفية الانتماء لداعش ومحاولة صنع متفجرات.
هذا الخاطر الذي باح به الفتى النحيف لم يكن سراً خافياً، فقد أفصح عنه حالُه قبلَ أن ينطق به لسانُه، أفصحت عنه نظراته وتعابير وجهه، أفصحت عنه منذ جلستنا الأولى التي بادرني فيها بأسئلة مشحونة بالاستنكار والاستفزاز، تُعبر عمّا كان يراه مسلّمات شرعية لا جدال حولها؛ من مثل: "لماذا تقيم في بلاد الكفر"؟ لماذا تلقي لهؤلاء الكفار بالمودة"؟، "ما رأيك في الدولة الإسلامية؟.. إلخ؛ وأحيانا كان يطرح أحد هذه الأسئلة الاستنكارية ثم يردفه بعارة استفزازية ممزوجة بابتسامة ساخرة، قائلاً: ".. هااااه.. أعرف أنك لن تجيب؛ لأنك لا تريد أن تقول الحقيقة".
مع كل، ذلك فقد سررت بهذا الاعتذار، ذلك لأنه من النادر أن يعتذر أحد هؤلاء عن هذا الخاطر بكل تلقائية وعفوية.
الفتى النحيف أُشْرِبَ خطاب داعش إلى حد امتزج بكل كيانه، وعقلِه وقلبِه، ونفسِه وروحه، وأحاسِيسه ومشاعِرِه، فقد كان مُصرّاً على مبايعته للبغدادي، ويرى أنها بيعة استوفت شروطها الشرعية، وأنه سيأثم بخلعها، ويستحضر لذلك بعض الأحاديث التي تدور حول وجوب البيعة والالتزام بها، كما يحفظ أناشيدهم الجهادية ويرددها بكل حماس، محاولاً تفخيم صوته الرقيق.
الفتى النحيف لم يدخر جهداً في الدفاع عن داعش، وخلاصة ما يراه هنا على النحو التالي:
"استناداً إلى مبدَأَي الولاء والبراء، ولأن البغدادي قد استنفر المسلمين لرد عدوان الدول المتحالفة ضده، فقد وجبت موالاته ونصرته والجهاد معه، وعليه فيجوز -حسب رأيه- مهاجمة الدول الكافرة سواء في أرض المعركة أو في عقر دارهم، ولفظة "المدني" لا تعني له شيئاً، بمعنى أنه لا يمانع أن يهاجم أفراد الناس في الشارع ويرى ذلك جهاداً، كما يرى أن الدول العربية المشاركة في هذا الحلف، هي بحكوماتها وشعوبها إما مرتدة أو فيها شُبهة ردة؛ لأنها والَت الكافرين وعادت المؤمنين؛ أي داعش".
هذه بشكل عام هي خلاصة رؤية الفتى النحيف بمقدماتها ونتائجها، لكن عند تفكيكها وفصل أجزائها عن بعضها، يظهر أنها مزيجُ خُلطةٍ مركبة على نحو معقد، يتداخل فيها ما هو ديني ونفسي، مع ما هو سياسي واجتماعي، مع جرعة زائدة من سطحية الفهم وحماسة المشاعر، وربما أيضاً مع شيء من سوء الحظ، جعله ضحية لأحد الخطابات المتأزمة المنتشرة هنا هناك، وبمعنى آخر، هذه الخلاصة عبارة عن اضطراب نفسي وإرباك عقلي، ناتِجَيْن عن تداخل عوامل متعددة، يأتي على رأسها: الدين، والوضع الحالي لبعض الدول العربية، ثم الجانب النفسي المتأثّر بالعوامل الثلاثة السابقة، الذي يجعل الفتى النحيف وغيره ممن هم في نفس الحالة، يختزلون المشاكل الاجتماعية والسياسية للأمة الإسلامية، بما في ذلك الحروب الأهلية التي تقع في بلدانها، يختزلون كل ذلك في عنصر الدين، وتحديداً في غياب تطبيق الشريعة وتضييع فريضة الجهاد، حسب رأيهم.
الفتى النحيف، الذي آلمني حاله، أراه ضحية بقدر ما هو مُذنبٌ؛ ضحية البيئة التي وُجِد فيها، بيئة أصابها الاحتقان الطائفي والمذهبي، فتهتك نسيجها الاجتماعي وانسد أفقها السياسي، وراج فيها خطاب ديني متأزم، وبمعنى آخر، هو ضحية وضع مأساوي تعيشه بعض مناطقنا العربية، يتشارك مسؤوليته رجال السياسة والدين، والمربون والاجتماعيون والمثقفون والمجتمع المدني بشكل عام.. إلخ.
الفتى النحيف ضحية خطاب ديني رائج اليوم، مبني على الترويج لفكر الصراع والهدم، أكثر من ترويجه لفكر التصالح والبناء، خطاب يروج لأحاديث "الفتن وأشراط الساعة" -هذه الأحاديث التي شكلت أيضاً مستنداً للقناعات التي انتهى إليها الفتى النحيف- أكثر من ترويجه للأحاديث التي ترسخ مبدأ الإيمان والقيم الإنسانية.. إلخ، هذا الخطاب الذي تسبب في تأزيم الحالة النفسية لكثير من المسلمين.
أقول هذا الكلام؛ لأن كل القناعات التي انتهى إليها الفتى النحيف، مصدرها هذا الخطاب.
فهو يعتقد مثلاً أن "الولاء والبراء" مستلزمان للبغض والكره بداهة، بمعنى أن كونه مؤمناً يستلزم منه بالضرورة أن يكره غير المسلمين في نفسه ويبغضهم في قلبه، ويعتقد أن ذلك ينسحب على الحياة كلها في علاقة المسلمين بغيرهم، بدءاً من إلقاء التحية إلى ما هو أبعد من ذلك، فإلقاء التحية مثلاً لغير المسلم، هو إلقاء له بالمودة، والمودة لا تجوز مع الكافر، حسب رأيه.
كما يرى الفتى النحيف أن الجهاد هو قتال الكفار حتى يعلنوا عن إسلامهم كرهاً أو طواعية، ويسوق لذلك فتاوى بعض الدعاة المعاصرين، مع استشهادات ببعض الأحاديث، كحديث: " أمرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله..".. إلخ.
وقد بينت له هنا أن فهمه لهذا الحديث يتعارض مع صريح القرآن الذي يقر أنه "لا إكراه في الدين"، و "وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر".. إلخ، وأن لفظة "الناس" في هذا الحديث لا تعني جميع الناس، بل أناساً معينين هم قريش، في زمن معين، كما صرح بذلك الطاهر ابن عاشور في كتابه "التحرير والتنوير" عند تفسير الآية السابقة: "لا إكراه في الدين".. إلخ، وقد كان من الصعب إقناع الفتى النحيف بهذا الذي أقوله؛ لأنه بدا وكأنه نشاز في ظل الفتاوى الرائجة هنا وهناك، والتي تؤيد المفهوم الذي يتبناه الفتى النحيف.
كثير من هذه الاستشهادات التي كان يستحضرها الفتى النحيف في قضايا الولاء والبراء والجهاد وغيرها.. إلخ، لم يكن مصدرها شيوخ "داعش"، وهذا ما كان يحتج به أيضاً، بل كان مصدرها فتاوى ومحاضرات كثير من الشيوخ، ممن لهم ظهور متكرر على شاشات الفضائيات، إضافة إلى بعض المواقع الإسلامية على الإنترنت، التي لم تكن بدورها تابعة لـ"داعش".
ما يؤسفني أخيراً قوله، هو أن الفتى النحيف لن يكون الحالة الأخير في هذه السلسلة؛ لأن عوامل إفراز أمثاله ما زالت حاضرة بقوة في وطننا العربي.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.