كان مما اعتنى به القرآن الكريم ذكر قصص دعوات الأنبياء ومنهجهم الحركي، وتصوير ذلك بأبلغ أسلوب، وعرضه بأدق عبارة، حتى أصبحت أخبارهم في القرآن نماذج حيّة يحتذيها الدعاة ويقتبسون مـن نورها، ويهتدون بهداها. قال الله تعالى: "أُوْلَئِكَ الَذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ"، فيأمر الله -سبحانه وتعالى- في هذه الآية نبيه محمداً -صلى الله عليه وسلم- بأن يقتدي بمنهج الأنبياء وأن يقتفي أثرهم وأن يسير على سنتهم. ومعلوم أن الخطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم- خطاب لأمته من بعده إلى قيام الساعة، فعليهم الاقتداء والاهتداء إلى معالم الطريق المذكورة في منهجهم الحركي.
ودعونا نتساءل: لماذا يُبدئ القرآن ويعيد في الحديث عن المنهج الحركي للانبياء والحديث عن تجربتهم، وتتكرر الآيات والسور عن هذا المنهج إشارةً أو إيماءً أو تفصيلاً، فلا يكاد يخلو جزء من القرآن الكريم من قصة دعوة نبي من الأنبياء، أو إشارة إليه وإلى ما جرى بينه وبين قومه، وفي هذا دعوة إلى أولئك الذين يقرأون ذلك الكتاب ويتعبدون الله بتلاوته إلى أن يسيروا وفق ما يناسب وقتهم من هذه المناهج وأن يرتسموا معالمه ويسلكوا خطاه.
قال تعالى: "يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ، وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ، وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً. يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ، وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً".
إن اللّه -سبحانه- يتلطف مع عباده فيبين لهم حكمة تشريعاته لهم، ويُطلعهم على ما في المنهج الذي يريده لحياتهم من خير ويسر. إنه يكرمهم -سبحانه- وهو يرفعهم إلى هذا الأفق. الأفق الذي يحدثهم فيه، ليبين لهم حكمة ما يشرعه لهم وليقول لهم إنه يريد أن يبين لهم.
"يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ".. يريد الله ليكشف لكم عن حكمته ويريد لكم أن تروا هذه الحكمة، وأن تتدبروها، وأن تقْبلوا عليها مفتوحي الأعين والعقول والقلوب فهي ليست معمّيات ولا ألغازاً وهي ليست تحكُّماً لا علة له ولا غاية، وأنتم أهل لإدراك حكمتها وأهل لبيان هذه الحكمة لكم.. وهو تكريم للإنسان، يدرك مداه من يحسون حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية، فيدركون مدى هذا التلطف الكريم.
"وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ".. فهذا المنهج هو منهج الله الذي سنَّه للمؤمنين جميعاً. وهو منهج ثابت في أصوله، موحَّد في مبادئه، مطّرد في غاياته وأهدافه.. هو منهج العصبة المؤمنة من قبل ومن بعد، ومنهج الأمة الواحدة التي يجمعها موكب الإيمان على مدار القرون.
بذلك، يجمع القرآن بين المهتدين إلى الله في كل زمان ومكان، ويكشف عن وحدة منهج الله في كل زمان ومكان، ويربط بين الجماعة المسلمة والموكب الإيماني الموصول، في الطريق الطويل. وهي لفتة تُشعر المسلم بحقيقة أصله وأمته ومنهجه وطريقه.. إنه من هذه الأمة المؤمنة بالله، تجمعها آصرة المنهج الإلهي، على اختلاف الزمان والمكان، واختلاف الأوطان والألوان وتربطها سنة اللّه المرسومة للمؤمنين في كل جيل، ومن كل قبيل.
ونحن إذ نستعرض تجربة نبي الله نوح عليه السلام ومنهجه الحركي في دعوة قومه، نظن أنه ربما يكون له شبه مع تجارب الحركات الإسلامية في بعض الدول، خاصة مع علية القوم الذين هم ضد كل حركات الإصلاح وهم يستخدمون في ذلك كل ما لديهم من أموال وسلطات ووسائل إعلام، فقد كانت المهمة صعبةً، والظروف قاسية بالنسبة لنوح عليه السلام، فلقد ظل يدعو قومه ليلاً ونهاراً، وسرّاً وجهاراً، ومكث بين قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، وفي النهاية لم يؤمن معه إلا القليل، فقد كانت نفوس القوم فاسدة ونفوس سادتهم أشد فساداً، حتى إن الله أغرقهم أجمعين باستثناء القلة المؤمنة مع نوح. وقد فسدت الأرض بفساد أصحابها، فأوحى الله إلى نوح بإنشاء السفينة لتنقل الفئة المؤمنة إلى خارج هذه الأرض الفاسدة.
ولعلنا نستفيد من تجربة نوح عليه السلام في اختيار الأرض التي تصلح فيها الدعوة، فهناك
أرض فاسدة لا تنبت فيها دعوة ولا يصلح فيها عمل الدعاة مهما بذلوا من مجهود، وبدأت مراحل دعوة نوح عليه السلام بالتدرج:
1- البَدْء بتوحيد الله عز وجل ونبذ عبادة الأصنام.
2- مواجهة الملأ الذين تصدَّوا لدعوته.
3- طول أمد الدعوة، مما استدعى تنويع أساليبها وتدرجها من استعمال الرفق واللين والترغيب، ثم التأنيب والتوبيخ، ومواجهة ذلك منهم بالاستخفاف والاستهزاء والسخرية، وتعرُّضه للمساومة كي يَطرُدَ المؤمنين الفقراء.
4- اليأس من إيمانهم بعد إخبار الله تعالى له والدعاء عليهم.
5- هلاك المكذِّبين.
مراحل دعوة نوح عليه السلام:
1- المرحلة الأولى: وهي الدعوة إلى التوحيد
سبق أن ذكرتُ أن أرض الدعوة كانت وثنيةً، فالقوم يعبدون عدَّة آلهة، وقد وجدوا على ذلك آباءهم وأجدادهم، حتى كان الآباء يُوصُون أبناءهم بالتمسُّك بعبادة تلك الأصنام وعدم التخلِّي عنها، وعلِم ذلك نوحٌ عليه السلام؛ حيث قال في دعائه: "وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً" [سورة نوح: 27].
ذكر الرازي: "وكان الرجل منهم ينطلقُ بابنِه إليه، ويقول: احذر هذا؛ فإنه كذَّاب، وإن أبي أوصاني بمثل هذه الوصية، فيموت الكبير وينشأ الصغير على ذلك".
ونتجه إلى سورة الأعراف؛ لنتعرَّف على بعض مراحل الدعوة، وأولاها الدعوة إلى توحيد الله عز وجل، قال تعالى: "فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم" [الأعراف: 59].
يقول الرازي: "في الآية فوائد:
– أنه -عليه السلام- أمرهم بعبادة الله تعالى.
– أنه حكم أن لا إله إلا الله، والمقصود من الكلام الأول إثبات التكليف، والمقصود من الكلام الثاني الإقرار بالتوحيد.
– أنه حذَّرهم عذاب يوم عظيم، وهو إما عذاب يوم القيامة، وإما عذاب يوم الطوفان".
2- المرحلة الثانية: رد الملأ ومواجهتهم
لَمَّا دعاهم إلى عبادة الله وحده، وخوَّفهم عذابه، اتَّهموه بالضلال في بداية الأمر "إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ" [سورة الأعراف: 60]، واتَّهموه بالجنون كما ورد في سورة المؤمنون "إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ" [سورة المؤمنون: 25]، وفي سورة القمر: "كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ" [سورة القمر: 9].
واتَّهموه بالكذب كما في قوله تعالى: "فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ" [هود: 27]
وسخِروا منه كما في قوله تعالى: "وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ" [هود: 38].
هذا بعضُ ما فعله وقاله الملأ، ولكن لماذا الملأ هم أعداء الرسل والرسالات؟!
والجواب قاله المفسرون: "الملأ: الكبراء والسادة الذين جعلوا أنفسهم أضداد الأنبياء… وهم الذين يملأون صدورَ المجالس، وتمتلئ القلوب من هيبتِهم، وتمتلئ الأبصار من رؤيتهم، وتتوجَّه العيون في المحافل إليهم، وهذه الصفات لا تحصلُ إلا في الرؤساء، وذلك يدلُّ على أن المراد من الملأ الرؤساء والأكابر".
لَمَّا اتهموه بالضلال قال: "لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ" [سورة الأعراف: 61]، وما أعظم هذا الردَّ! وما أبلغه! يقول الرازي: "فكان هذا أبلغَ في عموم السلب، ثم إنه لَمَّا نفى عن نفسه العيب الذي وصفوه به، ووصف نفسَه بأشرف الصفات وأجلِّها، وهو كونُه رسولاً إلى الخلق من رب العالمين، فذكر المقصود من الرسالة، وهو التبليغ والنصيحة ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ﴾ [سورة الأعراف: 62]، والفرق بين تبليغ الرسالة والنصيحة، هو أن تبليغ الرسالة معناه أن يُعرِّفهم أنواع تكاليف الله وأقسام أوامره ونواهيه. وأما النصيحة، فهي أن يُرغِّبهم في الطاعة، ويحذرهم من المعصية، ويسعى في تقرير ذلك بالترغيب والترهيب بأبلغ الوجوه".
وهؤلاء الملأ مِن عِليَة القوم وصَفْوة المجتمع، أصحاب المصالح، أعداء الإصلاح- اتَّهموا نوحاً -عليه السلام- بأنه ما اتَّبعه إلا الفقراء والعوامُّ وأصحاب الحِرَف، وطلبوا منه أن يطردَهم؛ ليكون المجلس مجلسَ الملأ، فهم الذين يملأون القلوب هيبة، والمجالسَ أبَّهة، ولا يليق أن يجالسهم الأراذل، يقول الله عز وجل: "فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ" [هود: 27].
يقول الرازي: "طعنوا في نبوَّته بثلاثة أنواع من الشبهات:
الأولى: أنه بشر.
الثانية: كونه ما اتَّبعه إلا أراذل من القوم كالحياكة وأهل الصنائع، قالوا: ولو كنت صادقاً، لاتَّبعك الأكياس من الناس والأشراف منهم. ونظيره قولُه تعالى: "قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ" [سورة الشعراء: 111] .
الشبهة الثالثة: لا نرى لكم علينا من فضل؛ لا في العقل، ولا في رعاية المصالح العاجلة، ولا في قوة الجدل…".
أما الرد على هذه الاتهامات وتلك الشبهات، فقد سجَّله القرآن الكريم في قوله تعالى: "قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ * وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ * وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ" [سورة هود: 28 -30].
ففي الآيات ردٌّ على الشبهات الثلاث السابقة:
فأما الشبهة الأولى: وهي أنه بشر، فقد رد عليها بقوله: "أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي"، وهذه الشبهة هي المعجزة الدالة على النبوة، وأما الرحمة، فهي النبوة "وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ"، ولكنهم في عمىً عن الحق، فالتبس عليهم الحق "فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ"؛ بسبب عمى البصيرة.
وأما الشبهة الثانية، وهي قولهم "لا يتَّبِعك إلا أراذل الناس"، فالرد عليها بقوله: "لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً"، وأنه لن يطرد الفقراء إرضاءً للأغنياء "وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا" [هود: 29].
وأما الشبهة الثالثة: "وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ…" [هود: 27]، فالردُّ عليها: "أن الله -تعالى- أعطاه أنواعاً كثيرة تُوجِب فضله عليهم؛ ولذلك لم يَسْعَ في طلب الدنيا، وإنما سعى في طلب الدِّين، والإعراض عن الدنيا من أمهات الفضائل باتفاقِ الكل، فلعل المراد تقريرُ الفضيلة من هذا الوجه".
3- أساليب الدعوة المتنوعة وتدرجها مع طول المكث وكثرة الجدال:
لَمَّا دعا نوحٌ قومَه إلى عبادة الله وحده، وخوَّفهم عذابه وانتقامه، اتَّهموه بالضلال، فنفَى عن نفسه الضلال، وأخبرهم بأنه مُبلِّغ عن الله تعالى، وأنه ناصح لهم، ثم نتأمَّل الترتيب في قوله تعالى وهو يخاطبهم: "أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" [الأعراف: 63].
يقول الرازي رحمه الله: "بيَّن تعالى ما لأجله يبعثُ الرسول، فقال تعالى: ﴿لِيُنْذِرَكُمْ﴾، وما لأجلِه ينذر، فقال ﴿وَلِتَتَّقُوا﴾، وما لأجله يتَّقون، فقال تعالى: ﴿وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾، وهذا الترتيب في غاية الحسن؛ فإن المقصود من البعثة الإنذار، والمقصود من الإنذار التقوى عن كل ما لا ينبغي، والمقصود من التقوى الفوز بالرحمة في دار الآخرة".
4- أساليب دعوة نوح عليه السلام:
أ – الدعوة بالليل والنهار، والسر والجهار، قال تعالى: "قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً" [سورة نوح: 5]، "ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً" [سورة نوح: 8، 9].
ولعله فهِم ما لهذا الأسلوب من أثرٍ على النفوس البشرية؛ إذ من الناس مَن يكون وعيُه وإدراكُه في النهار أكثرَ من الليل، ومنهم مَن يكون على العكس، فالصنف الأول دعاه بالنهار، والآخر دعاه بالليل، كما أنه لاحظ اختلافَ طبائع الناس، فوجد أن منهم مَن إذا وُجِّهت له الدعوة جهراً أمام الناس، تأخذُه العزة والأَنَفة، ولا يمتثلُ للأمر المدعُوِّ إليه؛ تكبراً أو تعالياً، وصلفاً وغروراً، وخوفاً من معايرة أهله وعشيرته، فهذا إذا دُعِي سرّاً، فإنه قد يمتثل إليه، وقد يُخفيه سراّ فترة من الزمن، وكان -عليه السلام- يُوجِّه الدعوة جهراً لمن يلمس فيه الشجاعة والاحترام وعدم المبالاة والخوف من أحد، طالما اقتنع بصحة ما أقدم عليه.
ب- إقامة الأدلة على قدرة الله -تعالى- في الخلق، والتنبيه على كثرة نعمه وآلائه، وذلك في قوله تعالى: "وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً" [سورة نوح: 14] وقوله: "وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطاً * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً" [سورة نوح: 17 – 20].
جـ- الترغيب في الطاعة وبيان ثوابها العاجل والآجل في الدنيا والآخرة، وذلك في قوله تعالى: "فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً" [سورة نوح: 10 – 12].
د- أسلوب التأنيب والتوبيخ بعد طول الحوار والجدل، وذلك في قوله تعالى: "مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً" [سورة نوح: 13].
ثم الدعاء عليهم، ولكن قبل أن يدعوَ عليهم اشتكى إلى ربه تعالى في قوله: "قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً" [سورة نوح: 5 – 7]، وقولِه: "قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَاراً * وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً" [سورة نوح: 21، 22].
ثم جاء الدعاء؛ دعاء المغلوب المظلوم، دعاء المتوكل على الله عز وجل، دعا عليه السلام بعدما أخبَره الله -عز وجل- أنه لن يُؤمِن من قومه إلا مَن قد آمن، "وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ" [سورة هود: 36]، إذن فلا فائدة، وليس إلا الدعاء عليهم:
• "وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً" [سورة نوح: 26، 27]، "فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ" [سورة القمر: 10].
فجاء النصر والانتقام؛ النصر والنجاة للمؤمنين الصابرين، والهلاك والانتقام من المجرمين المكذبين، وتلك سنّة الله تعالى، ويصف لنا القرآنُ الكريم كيف كان الانتقام:
• "فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ" [سورة القمر: 11، 12].
• "وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ" [سورة هود: 44].
• "مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَاراً" [سورة نوح: 25].
وتحقَّق قدر الله ووعده، فقد سلط عليهم ماء السماء والأرض فأغرقهم واستأصلهم، وأنجى الله تعالى المؤمنين، وتَبْقَى سنةُ الله تعالى فيمن بعدهم، "قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ" [سورة هود: 48].
وهكذا تظهر لنا سُنَّة التدريج في دعوة نوح عليه السلام فيما يلي:
1- فهم بيئة الدعوة؛ لتحديد نقطة البَدْء.
2- الدعوة إلى نَبْذ الأصنام، وتوحيد الله عز وجل.
3- استعمال الأساليب كافة، الممكنة والمتاحة لدى الداعي مع الصبر والتحمل.
4- مراعاة أحوال المخاطَبين ودعوتهم بالحكمة، وفي هذا يقول فضيلة الدكتور عبد الوهاب عبدالعاطي عبد الله:
"على الداعي أن يترسَّم خطى نوح -عليه السلام- في أساليبه المختلفة، كل أسلوب في مقامِه الذي يليق به، فلا يستعمل الداعي الحلمَ في مقام الشجاعة، ولا الشجاعة في مقام الحلم، ويتدرج في إقامة الأدلة".
5- البَدْء بأسلوب اللين والرفق مع المدعوِّين، والترغيب أولاً ثم الترهيب والتوبيخ، ثم التعنيف والتخويف، ثم يدعو الله – عز وجل – أن يفتح بينه وبين قومه.
ولكن وبعد ألف سنة إلا خمسين عاماً من الدعوة والجهاد والصبر والتحمل، ماذا كانت حصيلة الدعوة، وماذا كان الحصاد؟
قال تعالى: "حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ" [سورة هود: 40].
أخبره الله -عز وجل- أن مهمته أوشكَت على الانتهاء، وأنه لن يستجيب له أحدٌ بعد ذلك، قال تعالى: "حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ" [سورة هود: 40].
وما دام الأمر كذلك، فلا بأس من الدعاء عليهم، فدعا ربَّه، فاستجاب الله ونجَّاه ومَن معه وأغرق الآخرين، وشتَّان ما بين بداية الدعوة ونهايتِها، فلقد بدأت باللين والرفق والترغيب، وانتهت بأقسى ما يكون، وهو الدعاء عليهم والانتقام منهم وإهلاكهم بالغرق.
ولننظر إلى قوله تعالى في الولاء والبراء، وهل يجوز للمؤمن مولاة الكافر والزود عنه وحمايته حتى لو كان ابنه من صلبه:
"وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ، فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي، وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ، وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ. قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ، إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ، فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ. قالَ: رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ، وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ".
إن الله يخبرنا في هذه الآيات بأن الوشيجة التي يتجمع عليها الناس في هذا الدين وشيجة فريدة تتميز بها طبيعة هذا الدين، وتتعلق بآفاق وآماد وأبعاد وأهداف يختص بها ذلك المنهج الرباني الكريم.
إن هذه الوشيجة ليست وشيجة الدم والنسب وليست وشيجة الأرض والوطن، وليست وشيجة القوم والعشيرة، وليست وشيجة اللون واللغة، وليست وشيجة الجنس والعنصر، وليست وشيجة الحرفة والطبقة..
إن هذه الوشائج جميعها قد توجد ثم تنقطع العلاقة بين الفرد والفرد كما قال اللّه -سبحانه وتعالى- لعبده نوح -عليه السلام- وهو يقول: "رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي".. "يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ"، ثم بيَّن له لماذا يكون ابنه.. ليس من أهله.. "إنه عمل غير صالح".. إن وشيجة الإيمان قد انقطعت بينكما يا نوح: "فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ"، فأنت تحسب أنه من أهلك، ولكن هذا الحسبان خاطئ. أما المعلوم المستيقن فهو أنه ليس من أهلك، ولو كان هو ابنك من صلبك!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.