قبل ثلاثة أعوام من الآن، تحديداً في أغسطس/آب 2014، بينما كنت في زيارة معتادة لأخي الذي كان محبوساً حينها على خلفية قضية سياسية في سجن الاستئناف، اصطدمت بحالة شديدة الخصوصية لرجل خمسيني مريض قعيد متهم في أحداث عين شمس التي جرت في ديسمبر/كانون الأول 2013.
استطاع زملاء عز الدين عبد المنجي عطية (51 عاماً) بصعوبة شديدة تهريب قصاصة ورقية تحتوي على تشخيص مبدئي لحالته، قام بها طبيب محبوس معه في نفس الزنزانة، وصلت هذه الورقة إلى يدي، قالوا إني أمله الوحيد باعتباري صحفية وأستطيع توصيل صوته.
قال الطبيب الذي شخّص حالة عز الدين إنه مريض يعاني من (اضطراب في درجة الوعي واختلال في كل وظائف الجسم وتضخم في البروستاتا ما أدى إلى احتباس البول)، وذيّل حديثه بجملة واحدة (إنه الآن يحتضر).
كل ما كان يحلم به عز الدين أن يرى نور الشمس، زملاؤه قالوا إنه أخبرهم حينما اشتد عليه المرض دون أن يلقى أي نوع من الرعاية الصحية: "نفسي أشوف النور"، أخبروا العسكري فألقى به أمام الزنزانة لدقائق ثم أدخله مرة أخرى، وللعلم نزلاء سجن الاستئناف لا يحصلون على قسط من التريض.
حاولت، نعم حاولت أن أجعل تلك الورقة التي تحملت مسؤوليتها تصل إلى وسائل الإعلام، خاطبت كل مَن استطعت مخاطبته، ناجيت في الجميع ضمائرهم، وبالفعل حصل عز الدين على إخلاء سبيل هلّلنا جميعاً اعتبرناه انتصاراً، لكن النيابة استأنفت وفي 4 سبتمبر/أيلول 2014 مات عز الدين عبد المنجي عطية في قاعة المحكمة.
ثلات سنوات مرت، ولم يغب ذكره عني لحظة، رغم أنني لم أقابله، أتخيله يومياً يحاورني ويعاتبني قائلاً: أليس من أجل هذه القضايا اشتغلتم في الصحافة؟! أتخيل وكأن القيامة قد قامت، وهو واقفاً أمامي يقتص من عجزي وقلة حيلتي.
تركت عملي بعد ثلاثة أشهر من هذه الواقعة التي لم أنسها يوماً، وابتعدت كل البعد عن كل القضايا التي قد تمس حق الإنسان في الحياة، لم أستطِع مواجهة عجزي مرة ثانية، التزمت الصمت تماماً، وهربت حتى من نفسي.
ذات يوم قال لي مديري في العمل الذي التحقت به لاحقاً، وكان غرضه التحفيز: أنتم مدعون ترددون أنكم أصحاب قضايا ولا تفعلون شيئاً، (لم يكن هذا الحديث نصاً لكنه كان قريباً من ذلك)، لم أرد وانصرفت، يومها بكيت كثيراً، وأنا أطلب الرحمة والغفران.
مرت شهور وأنا أحاول أن أتناسى، لكن في أحد أيام العام الماضي رأيت زميلتي التي كانت مسؤولة عن متابعة الحالة الصحية للأستاذ هشام جعفر الكاتب الصحفي (53 عاماً) المحبوس احتياطياً منذ عامين تبكي وتكفكف دمعها وهي تطالع مستجدات حالته.
كنت أريد أن أحتضنها، أربت على كتفيها أقول لها إنني أشعر بها لكنني انسحبت في صمت، لم أقترب منها، وهي لا تعرف حتى الآن أنني رأيتها وشعرت دوماً أن هناك رابطاً ما بيني وبينها.
من وقتها، تابعت عن بُعد حالة أستاذ هشام التي تسوء يوماً بعد يوم حتى إنه فقد 90% من بصره، وأصيب بتضخّم في البروستاتا بحسب زوجته الدكتورة منار الطنطاوي التي انقلبت حياتها رأساً على عقب بعد اعتقال الأستاذ هشام، الباحث المرموق مدير مؤسسة مدى للتنمية المجتمعية، وحبسه بسجن العقرب سيئ السمعة.
منذ أيام أطلقت الدكتورة منار وبعض المتابعين لحالته حملة (أشوف النور) للإفراج عنه؛ نظراً لحالته الصحية المتدهورة، عندما قرأت الهاشتاغ لاح طيف عز الدين عبد المنجي عطية أمامي، وقد أصبحت حالة الأستاذ هشام قريبة الشبه منه، بكيت كثيراً وخفت على مصير الأخير الذي لم أقابله أيضاً.
رأيت نفسي مرة أخرى في منشورات الدكتورة منار التي تناضل من أجل الإفراج عن زوجها، رأيت العجز ماثلاً أمامي كجبل، سألت نفسي: هل تحاول زميلتي الهروب مثلي، خشيت عليهما من نفس مصيري، لا أريد لهما أن يسيرا في طريق العجز المظلم الذي يجعل أرواحنا باهتة، أفرجوا عن هشام جعفر وزملائه المرضى، دعوهم ودعونا نرى النور مرةً أخرى.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.