بعد معاناة مع المرض، رحل العظيم محمد مهدي عاكف في سجون مصر.. ربما تردَّدتُ كثيراً في كتابة هذه الكلمات؛ ذلك لأن كثيرين يُؤثرون تجنُّب الجدال في المناسبات الحزينة، خاصة مع عظم الفقد وجلل المصاب، لكن لا يمكن تجاوز رحيل عاكف بالنسبة لي ولكثير من شباب جيلي ربما دون حديث عن معضلة المناصب بالحركات الإسلامية وتفرُّد عاكف في حلّ الأمر وإعطاء الدرس عملياً دون صعوبة، ليصبح أول -وربما آخر- الحاصلين على لقب مرشد عام "سابق" بجماعة الإخوان.
ما الذي يدفع عاكف، وهو في أعلى منصب داخل جماعة الإخوان، للتخلي عنه طوعاً ويعلن عدم رغبته في التجديد رغم نجاحه أولاً في تجديد الدماء داخل الإخوان منذ انتخابه في 2004، وإعادة الجماعة للمشهد السياسي بالنزول إلى الشارع وبمبادرة الإصلاح ومكاسب البرلمان والعمل المعلن داخل الجامعات والنقابات بعد سنوات من العمل باسم "التيار الإسلامي".
ثانياً، لم يكن عاكف بحاجة إلى إقناعِ مَن حوله بأهمية إعادة انتخابه أو تبرير رغبته في ذلك؛ لأن لائحة الجماعة تسمح بذلك أصلاً، كذلك لم يشهد العُرف الإخواني أو تاريخ المرشدين ممن سبقوه حالة مماثلة، ولم يقترن لقب "المرشد" بـ"السابق" إلا بعد رحيله عن المنصب في 2010، لكنه رغم ذلك حسم قراره ونال اللقب المستحدث "المرشد السابق".
تعاني بعض قيادات الحركة الإسلامية حتى الآن، بعد مرور أكثر من 7 سنوات على الحدث، في استيعاب الدرس أو تفسير سبب تنازل عاكف وزهده في المنصب، ليس بالضرورة بسبب رغبتهم في السلطة وحرصهم على الكرسي، فبعضهم لا يحرّكه فعلاً سوى حرصه على الجماعة ولا يدفعه لمثل هذا التشبُّث إلا إحساسه الأبوي وحبه للجماعة وخوفه عليها من فكرة التغيير عموماً (رغم أنه قد لا يكون حقق أي نجاحات في منصبه أصلاً)، لكن عاكف كان فريداً حقاً، فقد آثر التغيير رغم النجاح!
قابلت الأستاذ عاكف عدة مرات في لقاءات مجمعة لا أكثر، لكن ذلك لم يمنعني من استحضاره كنموذج أوحد في نقاشاتي مع بعض قيادات الإخوان في محافظتي بعد الثورة؛ لحثّهم على التخلي عن مناصبهم والقبول بالتغيير كفكرة على غرار مهدي عاكف، أذكر أنه مع تكراري الأمر لأحد المسؤولين بعينه، سألني ممازحاً: "كل شوية عاكف عاكف.. إنت كنت بتستشهد بمين قبل 2010؟!".
رغم أن السؤال لم يكن جاداً، وربما مر سريعاً وقتها دون إجابة، لكنه كان يعكس واقعاً داخل الجماعة وقياداتها، فدرْس عاكف كان جديداً على الجميع، استغرق البعض سنوات في محاولة فهمه دون جدوى، وفضَّل آخرون تجاهله باعتباره حالة شاذة ليست بالضرورة صحيحة.
إذا كان وقع التغيير كفكرة صعباً على الفهم أو التطبيق لدى بعض قيادات الحركة الإسلامية، فكيف بمحاولة إقناعهم بأن يكون التغيير بطابع شبابي، لن أبالغ، لكن ربما لو استوعبت قيادات الإخوان درس عاكف تحديداً مع بعض الدروس الأخرى- لكان قدَر الثورة ومصر غير ذلك البؤس الحالي.
يقول عاكف في رسالة له بعنوان "دور الشباب في صناعة نهضة الأمة" عام 2009: "على قيادات الأمة في مختلف المجالات وعلى كل المستويات، أن تُسنِد إلى الشباب بعضَ المناصب والمسؤوليات، مع إعطائهم الصلاحيات التي تجعلهم يتحركون في حرية واختيار؛ إعداداً لهم، وتنميةً لملكاتهم، وتفجيراً للكامن من طاقاتهم، حتى تلتحمَ قوة الشباب مع حكمة الشيوخ، فيُثمرا رشاداً في الرأي وصلاحاً في العمل"
عاكف بالفعل "سابق"، فهو سبق كثيرين داخل الجماعة فكرياً، بإيمانه بفكرة التغيير وبتطوير أساليب الجماعة وبحصد مكاسب سياسية واجتماعية للجماعة، وسبقهم عملياً مرة أخرى بالتنازل عن منصبه طوعاً وعدم التشبُّث به رغم محاولات إقناعه، وسبقهم أخيراً بأن كان المرشد الوحيد للجماعة الذي يتوفى داخل سجون مصر.. عاكف بالفعل "سابق" ونفتخر بذلك.
رحم الله عاكف، لا يسيطر عليّ سوى إحساس بأننا صرنا أيتاماً داخل الجماعة برحيل عاكفها، وكما كتب صديقي بالأمس: "فقدنا برحيله الكثير، لدرجة أن كثرين ممن تعلموا منه معنى عدم التشبُّث بالمنصب، تمنُّوا لو أنه لم يعلِّمهم هذا الدرس!".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.