الأحداث التي يشهدها العراق بعد عام 2003، سواء في إطار علاقات الشراكة السياسية بين المتحالفين على حكمه أو في إطار علاقاته الخارجية، تثبت للمراقبين كل يوم أن مواقف وردود فعل الطبقة السياسية تنطلق من إيمان مطلق بمنهج الحديد والنار، باعتباره الأسلوب الأسهل لحل القضايا مع مَن يختلف معهم في الرأي، سواء كانوا أصدقاء أو شركاء أو أعداء، وهي استمرار للصورة النمطية التي اعتدنا عليها في عقلية الحاكم التقليدية في أنظمة العالم الثالث التي تحكمها موروثات قبلية لا تصمد أمامها الشهادات الأكاديمية والمعرفة الحديثة التي يتلقاها في المدارس الحديثة، وبناء على ذلك، فإن هذه الطبقة لن تختلف عن التي سبقتها في الوصول إلى كرسي الحكم، وربما كانت نتائج سياساتها أشد خطورة منها على أمن وسيادة ووحدة البلاد، خاصة أولئك الذين كانوا عادة ما يصفونهم بالطغاة والديكتاتوريين.
هذه الإشكالية التي تكاد تكون ظاهرة مستفحلة تؤكد أن لا صلة تربط عناصر وأحزاب هذه الطبقة بعالم السياسة بقدر صلتها بممارسات ومواقف ترتبط بسنوات عملها في المنافي كمعارضة سياسية؛ حيث مارست ضد النظام الحاكم كافة أشكال العمل المسلح من تفجيرات واغتيالات وخطف وسيارات مفخخة وعبوات لاصقة، ومن يتورط بمثل هذه الأعمال ويؤمن بها ويدمن عليها بالنتيجة سيكون من الصعب عليه أن يتخلى عنها؛ لأنه على قناعة راسخة بأنها وسائل ثورية مشروعة إذا ما ارتبط بها، مع أنه في ذات الوقت يعتبرها وسائل إرهابية إذا ما صدرت عن خصومه السياسيين.
لا شك أن مَن يؤمن بأولوية العنف وليس الحوار كوسيلة ناجعة لفرض الرأي وإسكات الخصوم سيكون من الصعب عليه أن يفكر بالخروج من إشكالية هذه المنظومة الفكرية المعقدة التي تتداخل فيها مفاهيم العنف بالثورة، والحلم بالكوابيس، والشياطين بالملائكة.
كل الذين تعاقبوا على حكم العراق يحملون في رؤوسهم هذه العقلية، سواء كانوا عسكريين أو مدنيين، ويشذ عن هذه القاعدة غالبية الطاقم السياسي في العهد الملكي الذين كانوا أبعد من غيرهم عن المواقف المتهورة، ولهذا استطاعوا أن يبنوا دولة العراق الحديث على أنقاض الدولة العثمانية المنهارة ما إن أعلن عن تأسيسها عام 1921 فتمكنوا من وضع لبناتها الأولى فأسسوا خطوط مواصلات حديثة وجسوراً ومستشفيات ومدارس وجامعات وعلاقات دبلوماسية رصينة مع المحيط الإقليمي والدولي.
رجال العهد الملكي كانوا يملكون إلى حد ما رؤية تتسم بالواقعية فيما يتعلق بطبيعة التحالفات التي ينبغي على العراق أن يعقدها وينضم إليها، مثل حلف بغداد الذي كان يضم بريطانيا، تركيا، باكستان، إيران إلى جانب العراق؛ لأجل أن يكون ضمن شراكة إقليمية تمنحه القوة والضمانة لمواجهة الأخطار الخارجية، بنفس الوقت حصل أن حاولت عناصر متطرفة أن تأخذ سفينة العهد الملكي التي كانت تسير بهدوء لبناء عراق حديث، أن تأخذها إلى وسط بحر متلاطم من الأمواج العاتية مثل المحاولة الانقلابية الفاشلة للجنرال بكر صدقي عام 1936،
والمحاولة الأخرى التي انتهت بالفشل أيضاً، والتي قادها رئيس الوزراء رشيد عالي الكيلاني عام 1941 وتوالت محاولات انقلابية عديدة بعد هاتين المحاولتين أدت جميعها إلى نتائج كارثية دفع العراق ثمنها باهظاً من استقرار وضعه السياسي، ودخل في نفق مظلم من الصراعات السياسية الدموية بين القوى والأحزاب انعكست تداعياتها بشكل سيئ على طبيعة العلاقات ما بين مكونات المجتمع العراقي ابتداء من 14 يوليو/تموز 1958، 8 فبراير/شباط 1963، 17 يوليو/تموز 1968، وليختتم مسلسل الانقلابات بسقوط بغداد في 9 أبريل/نيسان 2003 تحت سرفات الدبابات الأميركية.
هذا التاريخ المتداعي للدولة العراقية ابتدأ من لحظة سقوط العهد الملكي تتحمله ذات العقلية التي تحكم العراق هذه الأيام، ولن نحتاج إلى جهد كبير لنبحث عن الأدلة في المجلدات وكتب التاريخ؛ إذ يكفي فقط أن نستعيد خطابات الزعماء الذين تعاقبوا على حكم العراق عبر موقع اليوتيوب الإلكتروني لنجدها ذات طابع واحد، وكأنها نسخة واحدة؛ لأنها تحمل نفس العبارات والجمل التي عادة ما يهددون بها شركاءهم وخصومهم؛ حيث تتقدم فيها لغة التهديد والوعيد بالتصفية والقتل.
كما يتشابهون في طباعهم وتركيبتهم النفسية؛ حيث تبرز مكابرتهم مع كل الرسائل التي تصلهم من أصدقائهم ومن المجتمع الدولي، والتي تدعوهم إلى ترجيح لغة العقل والحوار وتغليبها على لغة الحرب عندما تتأزم علاقاتهم مع دول الجوار، أو مع شركائهم في الحكم، فالزعيم قاسم تجاهل كل الدعوات العربية والدولية التي كانت تنصحه بعدم إرسال قطار شبيبة أنصار السلام (كلهم من الشيوعيين) إلى الموصل عام 1959 خشية أن يترتب على ذلك احتكاك ومواجهات مع العناصر البعثية والقومية التي كانت تملك الرصيد الجماهيري الأكبر في المدينة،
وحصل ما حصل من عمليات قتل وسحل لمدنيين وعسكريين تناوب على اقترافها عناصر شيوعية وبعثية، ثم جاء عبد السلام عارف ولجأ إلى العنف أيضاً في تعامله مع تمرد الأكراد في منتصف ستينات القرن الماضي، وأكمل هذه السلسلة صدام حسين عندما غزا الكويت عام 1990 ورفض كل الدعوات بالخروج منها، فكان ذلك مقدمة لتدمير العراق عبر حصار دولي امتد 13 عاماً؛ ليفضي بالتالي إلى سقوط الدولة واحتلال العراق في 9 أبريل/نيسان 2003.
من الصعب بمكان في هذا المقال استعادة كافة المواقف التي تخندق فيها حكام العراق رافضين من خلالها الارتكان إلى لغة الحوار والنفَس الطويل في المفاوضات مع خصومهم، وهذا يؤكد أنهم جاءوا إلى السلطة وهم يحملون عقلية واحدة تخفي خلفها تركيبة نفسية تحمل عُقداً وإحباطات نفسية تدفعهم بالتالي إلى أن يندفعوا نحو العنف، لتحقيق نوع من التوازن تحتاجه تركيبتهم السيكولوجية المركبة.
لعل الخلافات الأخيرة التي تصدرت واجهة الأحداث ما بين بغداد وأربيل نتيجة إعلان حكومة إقليم كردستان عزمها إجراء استفتاء حول الانفصال عن العراق وتأسيس دولة كردستان في 25 سبتمبر/أيلول 2017 وما نتج عنه من مواقف وردود فعل تعكس أحدث صورة للمنظومة التي ينطلق منها رد فعل السياسي العراقي عندما يكون في موقع السلطة؛ حيث تقدمت لغة تهييج المشاعر العاطفية والقومية بنفس الجمل والعبارات التي سبق أن توالت في خطابات قاسم وعبد السلام وصدام والمالكي منذ منتصف خمسينات القرن الماضي وإلى العام 2003.
ربما يبدو إياد علاوي، رئيس الوزراء الأسبق، وحيدر العبادي رئيس الوزراء الحالي، وسط هذا الضجيج والزعيق الذي يتصاعد في المشهد السياسي الصوتين الوحيدين اللذين لم ينساقا إلى لغة التهديد وتهييج المشاعر، وبقي حيدر العبادي على سبيل المثال في الأزمة الأخيرة مع إقليم كردستان محافظاً على طبيعته الهادئة التي لا تعرف لغة التصعيد في وتيرة المواقف، بينما بقية الرهط السياسي متخندق وراء سواتر من الشعارات والجمل العاطفية العنصرية التي تهدف إلى تغييب لغة الحوار واستبعاد إمكانية الجلوس حول طاولة واحدة للتحاور والتفاوض حتى لو طالت المفاوضات عدة أعوام.
إن من المهم في وقت اشتداد الأزمات أن يكون لدى الأطراف المختلفة والمتنازعة خاصة إذا كانوا شركاء في الحكم أن تتوفر في داخلهم قناعة راسخة بأن الحوار وسيلتهم الأولى والأخيرة للتوصل إلى حلول، وأن يضعوا في حسبانهم استبعاد شبح الحرب نهائياً من مخيلتهم ومخططاتهم، وأن يستنفدوا كافة السبل والوساطات الإقليمية والدولية للخروج من الأزمة بعيداً عن الاقتتال.
إن التأكيد على هذه المبادئ التي تتمسك بالحوار والطرق السلمية ليس لأن العرب والكرد قد خسروا الكثير من الضحايا في الحرب ضد قوى الإرهاب خلال الأعوام الأخيرة، وليس لأن العراق وكردستان عاشا فصولاً من الصراع المسلح منذ خمسينات القرن الماضي، وليس لأن الكثير من فرص البناء والتقدم التنموي قد ضاعت على الشعبين العربي والكردي نتيجة هذا الصراع.
إنما لأن الحرب ستكون نتائجها كارثية على الطرفين على حد سواء، بمن في ذلك من يعتقد أنه قد خرج منها منتصراً.
فبالإضافة إلى ما ستخلفه الحرب من خسائر في الأرواح والممتلكات والبنى التحتية فإنها ستترك خلفها إرثاً من المشاعر السيئة بين شعبين متجاورين ومتداخلين اجتماعياً وتاريخياً ودينياً، وهذه الصلات تكفي لأن تلجم الداعين إلى خيار الاقتتال.
هذا إضافة إلى أن حلم الكرد التاريخي في إقامة دولتهم لن ينتهي حتى لو تم إيقاف الاستفتاء بالقوة، أولاً لأنه حلم مشروع من حيث المبدأ، وإذا ما كانت هنالك من خلافات ما بين بغداد وأربيل، فإنها حول بعض التفاصيل، وعلى افتراض أن هذه التفاصيل تحولت إلى عُقدة مستعصية يصعب الخروج منها، آنذاك يمكن اللجوء إلى أطراف دولية محايدة مثل الأمم المتحدة ليكون لها الكلام الفصل.
خلاصة القول: أمام أهمية ومسؤولية الحفاظ على حرمة الدم لا بد أن يصل الحاكم إلى الإيمان بمبدأ الحوار مع الخصوم حتى لو طال أمد التفاوض سنوات عديدة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.