قبل عام جاء في مقال لي تحت عنوان "الربيع الديمقراطي العربي: جدلية العامل الداخلي وتأثير باقي العالم": إنه من الصعب، إن لم نقُل من غير الممكن، العودة إلى الوراء في مسار الربيع العربي. وإن مقولة يمكنك أن تدوس على ما شئت من الزهور، لكنك لن تستطيع أن توقف الربيع تبقى ذات دلالة في مثل هذا المسلسل السياسي، وبتعبير آخر فإن الثورات المضادة لا ولن تشكل حلولاً دائمة بل هي مجرد موجات جزر لن تنفع مع المد الموالي الذي لا بد سيتبع، وأن هذه الثورات المضادة ليست إلا محاولة من باقي العالم للجم الربيع العربي…".
واليوم تأتي حالة الحصار غير المفهوم لدولة قطر من طرف بعض جيرانها لتضيف عنصراً جديداً في تأكيد هذه المقولة؛ حيث تتمثل الدواعي الداخلية للدول المحاصرة الأربع: السعودية والإمارات البحرين ومصر، في كونها دولاً متأخرة في مجال الحكم الديمقراطي؛ حيث صنّفتها مؤسسة فريدوم هاوس في تقريرها الصادر في بداية 2017 على أنها دول غير حرة not free.
هذه الدول ترى أن المصداقية في التعامل الإعلامي مع الأحداث، وتنوير الرأي العام العربي، والاجتهاد في إعطاء المعلومة للمتابع العربي التي تنتهجها الدوحة من خلال منصاتها الإعلامية المتعددة اللغات، المتمثلة في شبكة الجزيرة، شيء يجلب عليها المتاعب، ويسهم في إذكاء المطالب بالانفتاح السياسي لدى رأيها العام، مما يفرض عليها القيام بإصلاحات ديمقراطية غير مرغوب فيها، وزعزعة على المدى المتوسط وربما القريب لأساسيات نمط الحكم لديها.
مع الإشارة إلى اختلاف حالة مصر، بصفتها عرفت ثقافة الانتخاب والنظام الحزبي التعددي منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين، عن الدول الثلاث الأخرى التي هي ملكيات وراثية.
إن محاربة المد الديمقراطي في دول الربيع كليبيا وتونس بكل الوسائل لا تعدو كونها معالجة للأعراض لا اقتلاعاً للأسباب الأصلية، فضلاً عن أنها لم تؤتِ أكلها لحد الآن بالشكل المتوخى مما وجب معه، حسب هذه الدول، مجابهة أصل المشكل المتمثل في سياسة دولة قطر القائمة على الشفافية في الإعلام والمساندة لآمال وطموحات الشعوب العربية في حرية التعبير والعدل وحكم القانون.
إن محاربة أصل المشكلة وعدم الاقتصار على تجلياتها بمعاكسة دمقرطة الدول العربية، كما جرى في مصر من انقلاب على المسلسل الانتخابي سنة 2013 وفي بلقنة الشأن السياسي في ليبيا منذ 2014 وفي إفشال صعود رموز ثورة الياسمين التونسية في الانتخابات التشريعية والرئاسية لنفس السنة، هو دفاع عن النفس بالنسبة لهذه الدول وهو سعي للجْم انتشار بقعة الزيت الديمقراطية غير المتحكم فيها.
لأجل ذلك، تبدو الدول المحاصرة لقطر مستعدة للتحالف مع إسرائيل والتطبيع معها مقابل الحماية من فيضان الديمقراطية العابر للحدود لدرجة أنها تخال أن ربط العلاقات مع إسرائيل وتطوير التطبيع السياسي والاقتصادي معها هو الحصن الحصين لها ضد الربيع العربي، لكن إسرائيل "الديمقراطية"، مع التحفظ؛ لأنها لو كانت ديمقراطية لما احتلت أرضاً ولما هجرت شعباً، لا تحمي إلى ما لا نهاية؛ لأن الحماية الحقيقية هي حكم الشعوب بالقانون وضمان رضا الناس وقبولهم لمن يحكمهم.
وهي لا تحمي إلى ما لا نهاية أيضاً؛ لأنها تخاف على سمعتها بأن يشار إليها كمساند لدول تحارب الديمقراطية، كما أنها تعلم أن نخباً حاكمة منفصلة عن الشعوب لن تضمن لها مصالحها على المدى البعيد، وربما يأتي يوم تحس فيه أن جواراً ديمقراطياً، لا يذهب للحرب إلا بعد موافقة الشعوب، هو أفيد لها وأأمن.
لقد أوقفت إسرائيل ثلاث حروب على غزة في 2009، و2012، و2014 وقبل ذلك حرباً على لبنان في 2006، خوفاً على سمعتها واستجابة لضغوط القوة الناعمة للمنظمات غير الحكومية ولوسائل الإعلام العالمية المؤثرة -ومن بينها قنوات الجزيرة- التي تجيد استعمال الآلية المعروفة بالفضح بالإشارة Naming and shaming. تلويث السمعة الناتج عن الحرب اللامتكافئة، كان بمثابة تهديد لها بنقص أو فقد دعم شعوب الغرب وحكوماته الديمقراطية.
قنوات الجزيرة التي تطلب الدول المحاصرة رأسها اليوم، لا تستطيع إسرائيل إسكاتها رغم أنها تغطّي من فلسطين المحتلة 24 ساعة/ 24 كل مستجدات الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين، ولعل الإعلان مؤخراً عن قرار إسرائيل إغلاق مكتب هذه القناة لديها ليس إلا محاولة إعلامية لحكومة نتنياهو لإرضاء الدول الأربع، أما الكلمة الفصل في الموضوع فتبقى بيد القضاء الإسرائيلي الذي سيحدد مدى شرعية القرار المذكور.
فالحصار إذن هو عملية سياسية اقتصادية اجتماعية تهدف إلى قطع الطريق على قطر وقنواتها الفضائية لتوعية الشعوب العربية وهو بمثابة قطع لرأس "الثعبان" التنويري الآن قبل الغد بذريعة محاربة الإرهاب الفضفاضة التي تفتقر إلى الدليل المقنع.
إن القول بأن الديمقراطية تهدد الدول ليس بدقيق، بل العكس هو الصحيح، ففي بلادنا العربية هناك أنظمة وراثية الحكم جديرة بالاحترام كقطر والكويت والمغرب.
إن السر في ذلك هو أن قادة هذه الدول يتجهون بشعوبهم نحو الديمقراطية بخُطى وئيدة ثابتة وينصتون للرأي العام الداخلي.
كما أن لهذه الدول سمعة دولية جيدة، فالكويت والمغرب مصنفتان كدول حرة جزئياً Partly free في تقرير 2017 لمنظمة فريدوم هاوس، إضافة إلى دولة لبنان، وهما بالتالي تتموقعان كي تصبحا أكثر انفتاحاً على النظام الديمقراطي وتلتحقا بتونس الدولة العربية الوحيدة التي تصنف حرة Free حسب تقرير المنظمة غير الحكومية الأميركية المذكورة.
وبشكل أعمق، لماذا تصطف الملكيات الخليجية الثلاث: الإمارات، السعودية، والبحرين ضد المد الديمقراطي؟ هل لأن الملكيات لا تتواءم مع النظام الديمقراطي؟ بالقطع لا.
فالنظام الملكي يمكن أن يكون ديمقراطياً ومتماهياً مع آمال شعبه أكثر من النظام الجمهوري. ففي بريطانيا مثلاً، وهي مهد الديمقراطية التمثيلية، لا ينتقد أحد النظام الملكي الدستوري ولا يجرؤ أحد على التفكير في تغييره.
إن المواطن العربي توّاق إلى التغيير مع الاستقرار، إلى الإصلاح مع الحفاظ على الثوابت، وإلى إكمال البناء لا الهدم، كما أن الديمقراطية هي مسلسل يجب الذهاب فيه ببطء لكن بثبات، أما "الديمقراطوفوبيا" فهي إحساس غير طبيعي وغير مرحب به في 2017 حيث نسبة 64% من سكان المعمورة يحكمون بالديمقراطية، سواء أكانوا في دول ديمقراطية قحة (40%) أو في دول شبه ديمقراطية (24%) حسب أرقام فريدوم هاوس لسنة 2017.
طيلة الأزمة الحالية بين الدول الأربع ودولة قطر، لاحظنا مساراً متراجعاً لمواقف الدول الأربع.
هذا التململ في المواقف يفسره تآكل مصداقية المحاصرين حول الأسباب التي زعموا أنها كانت وراء قراراتهم، وخصوصاً إخفاقهم بشكل واضح في احترام المعايير الدولية لحقوق الإنسان، سواء للمواطنين أو الأجانب.
ليس إذن، أمام الدول الأربع إلا العدول عن الحصار عن طريق تغيير مواقفها بتدرج حفاظاً صورتها أمام العالم، وخصوصاً أمام مواطنيها.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.