استفتاء كردستان أم بارزاني؟

لطالما أثارت الانتباه في العقود الماضية شخصية حاملي لقب أسرة (بارزاني) على امتداد تبوّئهم المواقع المتقدمة قبل وبعد تأسيس حزبهم المعروف بــ(الديمقراطي الكردستاني) المشهور بـ(البارتي).

عربي بوست
تم النشر: 2017/09/19 الساعة 08:00 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/09/19 الساعة 08:00 بتوقيت غرينتش

لطالما أثارت الانتباه في العقود الماضية شخصية حاملي لقب أسرة (بارزاني) على امتداد تبوّئهم المواقع المتقدمة قبل وبعد تأسيس حزبهم المعروف بــ(الديمقراطي الكردستاني) المشهور بـ(البارتي).

والانتباه المثار حول سليلي ذلك اللقب لا يقتصر على نزعتهم الجامحة نحو الانفصال وتكوين كيانهم الخاص -متخذين من القضية الكردية لواء يتم حمله للدلالة على نزعتهم تلك- فحسب، بل ويشتد الانتباه أيضاً حول الطريقة والنهج الذي يتم اتخاذه للسير في طريق تحقيق هدفهم المعلن، وهو إقامة دولتهم المستقلة، بانتقالهم من حِجر بريطانيا ثم أميركا، مروراً بالعلاقة المتقلبة مع أنظمة الحكم المتعاقبة في العراق، التي عادة ما كانت تأخذ طابع التسوية والهدوء في البداية، ثم ما تبلث أن تشتعل شرارة الصدام فيها من جديد، وصولاً إلى الصلة الفريدة في تطرفها هي الأخرى والآخذة لأشكال استفزازية صارخة مع الكيان الصهيوني.

ليس مستغرباً أن يعلو نجم البارزانية مع كل مرة تمر فيها سلطة الحكم المركزية في بغداد بالضعف والإرادة المسلوبة لأسباب شتى، وقد يكون غير مستغرب أيضاً سر ذلك الدعم الصهيوني لــ(القضية الكردية) من حيث تشابه السلوك المتطرف الكردي – الصهيوني القائم على النزعة القومية الصارخة ونقاء العرق، ثم الغايات التي تقف وراء ذلك الدعم من حيث مصب نتائجه بالفائدة المرجوة لإضعاف العراق كجزء مهم في المنطقة.

وبتصفح التاريخ نجد مشاريع قيام الدولة الكردية تنتهي دوماً بالفشل، حينما تتفق المصالح على حتمية منعها وكبح جماح انتشارها المحتمل، وهذا ما حصل مثلاً في جمهورية مهاباد التي أقامها أكراد إيران منتصف الأربعينات من القرن العشرين، والتي لم يكن مصادفة أن يلعب فيها مصطفى بارزاني دوراً هاماً في تأسيسها بالاشتراك مع زعيمها القاضي محمد، والتي سرعان ما انهارت بسبب اتفاق المصلحة الشاهنشاهية حينها مع بريطانيا على وأدها في مهدها، وتتكرر اليوم ذات المصلحة المشتركة، وإن فرضها حكم الضرورة بين العراق وتركيا وإيران والولايات المتحدة على رفض مشروع الاستفتاء في كردستان في 25 من الشهر الجاري، ولئن انطلقت اسباب الرفض التركي والإيراني من خلفيات وطنية أو جغرافية بحتة، فإن الرفض الأميركي قد يستند إلى عدم ملاءمة الاستفتاء حالياً مع المصلحة الأميركية وفق رؤية إدارتها الخاصة، وهي التي لطالما اتخذت من القضية الكردية موطئ قدم لفرض إرادتها الخاصة داخل العراق في الماضي.

أما جوار العراق العربي، فمع التصريحات الرسمية المتداولة والمتكررة حول الحرص على وحدة العراق واستقلاله إلا أن التمنيات برؤية عراق أكثر ضعفاً وانقساماً حتى في جغرافيته ليست ببعيدة عن أفئدة وعقول صانعي القرار السياسي في دول الجوار تلك، ومنها السعودية التي تتعالى فيها أصوات تأييد حق الكرد في الانفصال والاستقبال الحافل على أعلى المستويات الذي تلقاه مسعود بارزاني لدى زيارته للرياض العام الماضي، والذي ارتقى لمستوى رؤساء الدول.

وقد تبدو اللهجة السعودية الرسمية حالياً أكثر ميلاً إلى تخفيف حدة التوتر مع العراق بعد التقارب الذي شهدته علاقات البلدين بعد تحرير الموصل، تقارب فرضته ظروف تغير المعطيات مع انتصار العراق، والمكاسب التي تحققها الحكومة السورية في ميدانها مضافاً إليه الأزمة الخليجية وانعدام أفق الحسم لصالح الرياض وتحالفها في اليمن، كل ذلك فرض على المملكة أن تخفي مرحلياً ما كانت تغمز إليه من طرف خفي عن طريق أذرعها السياسية والإعلامية حول دعم انفصال كردستان عن العراق.

أما الداخل الكردي فمتناقضاته ليست أفضل حالاً من نظيراتها في خارجه، فتنازع الإرادات والمصالح بين الأحزاب الكردية منذ سنوات وتصاعد الانتقادات الموجهة لسياسة بارزاني خاصة، وهو الذي لا يزال في منصبه رغم انتهاء ولايته منذ سنوات، والأزمة الاقتصادية التي يعاني منها الإقليم كجزء من العراق، واختلاف الرؤية حول جدوى الاستفتاء في الوقت الحالي، كل ذلك يجعل ماهية الاستفتاء والنتائج المرجوة منه وفق رؤية بارزاني محل شك مضافاً إليه تأرجح التصريحات الصادرة عن بارزاني حول طبيعة الاستفتاء نفسه، فهو ليس استفتاء ينتج عنه قيام دولة مباشرة، وإرسال وفد كردي إلى بغداد للحوار في الوقت الذي من المفترض أن يكون تحديد موعده مؤشراً يعكس جدية وتصميم بارزاني على إجرائه، كتصريحه بإمكانية تأجيل الاستفتاء حالياً شريطة تعهد بغداد بقبول نتائجه مستقبلاً، بالإضافة إلى ضمانات دولية بذلك.

وما يزيد الشك حول جدية الاستفتاء أن بارزاني صرح أكثر من مرة بشكواه المزمنة من تفرد بغداد بالقرار السياسي وغياب الشراكة، على حد زعمه، وربما تكون تلك إشارة أخرى لإمكانية تأجيل الاستفتاء بالفعل في حال حصوله على بعض المكاسب الآنية التي تجعله يفكر بجدية في تأجيل الاستفتاء، وتلك علامة فارقة في سياسة بارزاني على الدوام؛ حيث حضور المصلحة دوماً والسير خلفها مهما كانت الظروف، كما حدث في أغسطس/آب 1996 يوم استعان بصدام ذاته في صراعه مع غريمه طالباني ضارباً بالدكتاتورية الصدامية وقمعها للأكراد -وهي النغمة التي طالما عزفها بارزاني سابقاً وحالياً- عرض الجدار.

تبقى إشكالية المناطق المتنازع عليها -الكردستانية خارج الإقليم وفق وصف بارزاني- وأبرزها كركوك مشكلة حقيقية للحكومة العراقية وبارزاني على السواء، فمع إصراره على شمول تلك المناطق بالاستفتاء المرتقب تصرّ الحكومة من جانبها على عكس ذلك، انطلاقاً من اعتبارات أهمها عدم حسم أمر تلك المناطق حتى الآن، حسماً لا تزال أطراف كثيرة في الداخل العراقي ترفض أن يكون في صالح بارزاني، ما يجعل وضع تلك المناطق بالغ الصعوبة مع يقين بارزاني بعدم التمكن من الانفراد بمفرده لفرض تصوره حول مستقبل تلك المناطق بمعزل عن التوافقات الإقليمية والدولية على الأقل إذا ما أراد تجاهل الداخل العراقي برمّته.

يبقى حدث الاستفتاء في حد ذاته خطوة استثنائية لطالما تم التلويح بها كعصا بارزانية في وجه بغداد، وهو التلويح الذي دفع أطرافاً عراقية – سأماً من سياسة بارزاني وصداعه المزمن – إلى حد القبول ليس بالاستفتاء فحسب، بل وبانفصال الإقليم، ولكن بحدود محافظاته الثلاث فقط، وتلك هي الأخرى انعطافة جديدة في تفكير بعض العراقيين بعد أن كان مجرد الحديث عن مثل هذا الطرح من المحرمات.

وليس بغريب أن يأتي موعد الاستفتاء وتصاعد وتيرة الدعوات لإجرائه بعيد انتصار العراق في حربه ضد داعش، وهي التي كان شعار خوضها الأساس الحفاظ على وحدة وتماسك الأراضي العراقية، وهي ذاتها التي تعامل معها بارزاني ببرود في البداية، ولم يفوّت الفرصة كعادته في استغلال مثل هذه الأحداث ليدفع بقواته داخل كركوك بحجة تطبيق المادة 140 من الدستور قبل أن يمارس دور المحارب لداعش بنغمة مزعجة كعادته.

ولتستمر محنة العراق أرضاً وشعباً مع أصحاب المصالح الخاصة غير العابئين بمقدراته ومستقبله، ولتدخل محنته تلك فصلاً جديداً لا يمكن وصفه بأقل من غير المحمودة عواقبه أو المأمونة نتائجه، تلك العواقب التي إن صح توقعها ستجعل العراق من جديد على شفا خطر حقيقي لا تقتصر توابعه عليه بالتأكيد، بل يفتح الباب واسعاً أمام تغيرات جديدة في المنطقة أريد لنيرانها أن تبقى رماداً خامداً قدر الإمكان.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد