حدّثونا في طفولتنا عن عازف على المزمار يقود بألحانه قطعاناً من الجرذان حيث يشاء، كان عزفه الجميل يسحر لبّها ويغيب وعيها وتفكيرها، فتنطلق مقتفية أثره بلا هدى ولا تفكير.
وكنا في صبانا نجزم ونقسم أن القصة من وحي خيال الجدات الذي لا ينضب، أو القصاصين المبدعين، وأنه لا وجود للمزمار السحري، ولا وجود للعازف الساحر، ولا وجود لقطعان الجرذان التي تعمل بما تؤمر لا بما جبلها الله عليه من طباع حرة، إلى أن أتانا حاكم أميركي منشداً أنشودة صناعة اليوتوبيا في أرض الرافدين، فتبعه حكام العرب وحشود من معارضة الفنادق والملاهي الغربية، ودخلوا بغداد تحت تأثير سحر نشيد بوش حول العراق الجديد الحر الديمقراطي القوي، وأُعدم الزعيم الشرعي للعراق العظيم في مشهد يؤرّخ لعظمة الرجل الأسطوري،
وفي يوم عبادة يقدسه عموم المسلمين على اختلاف مشاربهم، وعاثت جموع الجرذان في العراق تخريباً حتى ما عاد العراق عراقاً واختفى أو يكاد من خارطة الأمم، وحمل الساحر مزماره وعزف مرة أخرى نشيد الديمقراطية والحرية في ليبيا جماهيرية الفاتح من سبتمبر/أيلول المجيد فتبعته قطعان أخرى شبيهة بالأولى، وانتشرت في بلاد النهر العظيم حتى جعلتها نسياً منسياً.
وشاءت معادلة السنوات الهجرية والميلادية لهذه السنة أن يتوافق تاريخ العاشر من ذي الحجة مع تاريخ الفاتح من سبتمبر/أيلول فكان ألم الذكرى مضاعفاً ليس على ضياع قُطرين عربيين في غياهب المجهول، وإنما على وأد حلم القومية العربية الذي بات اليوم بلا فارس وبلا جواد.
يصعب تاريخياً تحديد أولى محاولات توحيد الأمة العربية على أساس عِرقي بسبب الترابط الذي كان قائماً طيلة قرون من الخلافة بين العروبة وبين الدين الإسلامي، ويذهب الدهماء من المؤرخين إلى اعتبار تمرد محمد علي باشا في القرن التاسع عشر على الخلافة العثمانية وتمدد دولته من مصر والسودان إلى حدود عكا والشام هو الشرارة الأولى لمحاولات إنشاء كيان عربي مستقل وموحد، لكن الحلم ما لبث أن خبا تحت وطأة تدخّل قُوى الغرب لشد أزر الدولة العثمانية وحماية طريق الهند الحيوي من هيمنة العرب عليه،
ثم انبعث من جديد من رحم الجمعيات الأدبية والسياسية في الشام ونما مع المؤتمر العربي الأول سنة 1913 ثم مع ثورة الشريف حسين المطمئن لوعود مكماهون بالمساعدة في إنشاء كيان عربي مستقل، وفات العرب أن لا وجود لمصطلح "كلمة الشرف" لدى ساسة بريطانيا أو فرنسا، فدفعوا ثمن تعاونهم مع الغزاة عقوداً من الاحتلال والقتل والتدمير، وباتت الوحدة بعد خيبة الثورة الكبرى شعاراً لساسة العرب في العراق وسوريا ومصر والجزائر ثم ليبيا، وكل مَن حمل هذا الحلم بين جنبيه وآمن به كان كمن ألقى بنفسه في حلبة صراع الموت مع الإمبريالية الغربية حتى وجدنا أنفسنا اليوم بعد قرنين من الحلم وبعد قرن من الصراع وبعد القذافي وصدام بلا قيادة ترعى الحلم الجميل وتغذيه.
وهيمنت على ساحاتنا العربية الخطابات القُطرية الضيقة والأممية المستحدثة، وغاب عن قمم العرب صوت الحق المزمجر، وباتت اجتماعاتهم بيعةً متجددةً لصاحب المزمار.
لم تعد الوحدة العربية هاجس أحد من حكام اليوم، وطغت أصوات الانسلاخيين حتى صمّت الآذان وأصبح التطبيع مع الكيان النَّغِل وجهة نظر لا جريمة في حق الوطن الكبير وخيانة في زمن الحروب، وبات تقديس الحدود من أهم أركان الوطنية حتى دخلنا عهداً جديداً لا نتنكر فيه فقط لوحدة التراب، بل لوحدة العرق أيضاً، ونمت أصوات عربية اللسان تحدثنا من عواصم الغرب حيناً، ومن وسط الجماهير أحياناً أننا أمازيغ لا عرب، وأننا فراعنة، وأننا سومريون، وأن العربي احتل أرضنا، وأن فلسطين بقعة نائية أجنبية والصراع فيها لا ناقة لنا فيه ولا جمل، وأن أزمة العراق تهم أهله، وبلاد الشام لها الله.
وتناسينا فضل العراق على سائر الأقطار وتلك الكتب المدرسية في ثمانينات القرن الماضي وفي السبعينات، وقد كتب في صفحتها الأخيرة "هدية من الشعب العراقي إلى القطر الفلاني الشقيق"، وزوّرنا تاريخ الجامعات التي بناها بعث العراق في المغرب العربي، وأسقطنا من الذاكرة اليد الليبية الممتدة بالإخاء، وتنكرنا للشام التي فتحت حدودها بلا قيد أمام كل العرب من المحيط إلى الخليج، وغرقنا في التسويق للدعاية الغربية الساعية لوأد الوحدة، وترسيخ حدود الاستعمار بما يخدم مصالحه في استغلال مقدرات الشعب العربي.
غاب حَمَلة الحلم ورعاته عن سدة الحكم اليوم، وللغياب من الأسباب ما يتجاوز قدرة مقالة واحدة على الإتيان عليها مجتمعة، هي خليط مركب من خطيئة تقديم الإصلاح الاقتصادي على السياسي، ومن العمل النخبوي ومن التخلي عن القوة العسكرية طوعاً أو كرهاً، ومن تغييب الحراك الجماهيري والاقتداء بقادة الصف الأول دون الانخراط الفعلي في العمل الحر والنقد البناء، ومن تغييب دور الجمعيات الثقافية في نشر رسالة القومية العربية، والحال أنها مهدها الأول، ومن الغرق في تفاصيل الماضي وأسباب التناحر العربي – العربي حتى لكأننا نعيد مأساة بني بكر وبني تغلب في حرب البسوس التي دامت عقوداً، والسبب ناقة.
كم كنت أتمنى لو بقي السادات حياً إلى اليوم وهو أول الخناجر المغروسة في ظهر المشروع القومي، كان الرجل أكبر المنقلبين على النهج الوحدوي، وكانت زيارته للكيان الصهيوني إعلاناً بنهاية عصر القيادة المصرية للقاطرة القومية، ولميلاد جيل من المطبعين بلا خجل أو حياء، كان يرى في كامب ديفيد طريقاً لإنعاش اقتصاد مصر وفي المساعدات الأميركية غنيمة وجب صيدها.
كم كنت أتمنى لو بقي على قيد الحياة ليرى الأميركان وهم يخفضون مستوى المعونة تدريجياً، رغم التعاون غير المشروط من قِبَل حاكم مصر اليوم، يخفضونها لإدراكهم أن لا دور تلعبه مصر اليوم بعد عقود من التطبيع، وأن الرهان عليها في اليمن أو ليبيا أو العراق فاشل بسبب تقوقعها وانعزالها الأعمى، كم كنت أتمنى لو عاش ليرى مصر العظيمة بلا دور تلعبه سوى دور التابع عديم النفع.
أكثر من عقد من الزمان من دون صدام، وسبع عجاف على رحيل القذافي، والبديل عن الاتجاه القومي يخبط خبط عشواء ويبحث عن تحالفات نديّة مع الغرب والشرق بلا جدوى ويصنع التطرف والقبلية والضعف بتخبطه، فالطائفية عدوة القومية، ومن غياب الأخيرة سطع نجم الأولى، والقبيلة في الفكر القومي نواة لمجتمع وليست هي المجتمع ولا هي بديل عنه، ولا يمكن أن تسود الأقطار العربية في العالم وهي منفردة مشتتة متناحرة في زمن التكتلات، ولا أمل في نهوضها وسط أباطرة العالم من دون وحدة عربية اقتصادية أو سياسية، كان عبد الناصر قديساً لحكام العالم الثالث، وهو يقود القومية العربية وكان محج زعماء العالم الحر أمثال كوامي نكروما ونهرو وتيتو، وصانعاً لتيار أممي جديد يتحدى المعسكر الأميركي، وينأى بنفسه عن السوفييتي، أما اليوم فنحن صفر على الشمال في معادلات الأمم ومجرد آبار نفط أو شواطئ جميلة للسياحة أو التسوق في أحسن الحالات، وكان العراق مهيباً عظيماً زمن الحكم القومي، وكانت ليبيا رقماً صعباً يحسب له ألف حساب في كل المحافل، وكانت مصر أم العالم الثالث وملهمته، لكننا بترنا أكفنا بأكفنا وجدعنا أنوفنا بسيوفنا فتذيّلنا قاطرة الأمم.
إن عزف ساحر المزمار لا يطرق مسامع المشبع بالقومية العربية، ففيها دون سواها طوق نجاة أمتنا بأجيالها الحالية والقادمة، وما على القابضين على جمر العروبة إلا زراعة الفكر القومي في النشء، والرهان على المد الجماهيري، وكسب معركة الإعلام، وتجاوز ضغائن الأمس حتى لا تكون دعوتنا للوحدة حُجةً علينا، والسعي للتأقلم مع واقع الديمقراطية وتجاوز مرحلة القائد الرمز إلى مرحلة القيادة الجماعية الرقيبة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.