الملاحظ هو تحول الجيوش العربية عن إسرائيل إلى محاربة الإرهاب، فما نصيب إسرائيل في هذا التحول الذي بدا وكأن الإرهاب أولى من مواجهة إسرائيل.
تبحث هذه المقالة فرضية تفرغ الجيوش العربية للإرهاب كأولوية طارئة أم أن تحول الجيوش عن إسرائيل سابق علي ظهور الإرهاب أم أن الجيوش بحثت عن وظيفة جديدة بدلاً من البطالة؟
هذه قضية تستحق البحث والتأمل العلمي؛ لكي نختبر فيها فرضية أخرى، وهي أن إسرائيل تريد أن تشغل الجيوش العربية بغيرها، وهو في النهاية صراع داخل كل دولة عربية، فلا تفكر مطلقاً في الصراع الذي صار مجرد نزاع إسرائيلي فلسطيني، وهذا تحول خطير في التفكير السياسي والعسكري العربي المحدود بعد هزيمة الجيوش أمام إسرائيل، أو بمعنى أدق عجزها عام 48 عن منع العصابات الصهيونية من الاستقرار في قلب فلسطين، ثم الفشل في مواجهة التوسع الصهيوني في الجسد العربي.
كانت كافة الجيوش العربية، خاصة فى الدول المحيطة بإسرائيل، تستمد شرعيتها من أنها منذورة للخلاص من إسرائيل، أو على الأقل الدفاع عن الحياض العربية من اعتداءات إسرائيل.
ولكن هذه الجيوش منيت بهزائم منكرة على يد إسرائيل لسبب واحد، هو عدم كفاءة نظمها السياسية التي عجزت عن أن توفر لهذه الجيوش المنعة السياسية والدبلوماسية والتحالفات اللازمة، والقدرة على تجريد إسرائيل من مصادر قوتها الخارجية. ولما يئست هذه الدول من مواجهة "السرطان" الذى زرع فى الجسد العربى عام 1948، كما وصفها النقراشى باشا فى مجلس الأمن عام 1948، كما فشلت الجامعة العربية، اتجهت هذه الدول بقيادة مصر عام 1979 إلى التسليم للمشروع الصهيوني، وإعلان الاستسلام أمامه، والإقرار بانتصاره على مناعة الجسد العربي؛ لأن هذا الجسد تدير أموره طبقة هشة ونظم بالية تجد شرعيتها في التماهي مع المشروع الذي تدعمه واشنطن سراً وعلانية، ووجدت حياتها فى الارتماء في أحضانه وليس مقاومته.
والنتيجة أن هذا المشروع بحث عن وظيفة جديدة للجيوش العربية، بعد أن تأكد أن التصدي لهذا المشروع لم يعد عقيدة هذه الجيوش، وهذه الوظيفة الجديدة هي الإرهاب، الذى يجد الإرهابيون وضحاياه ومسارح الإرهاب فى صلب العالم العربي وبين شعوبه، واستغل المشروع لتحقيق هذا التحول التاريخي عجزها عن توافق هذه النظم مع شعوبها، وهو السبب المشترك لجميع مسارح الإرهاب. فالإرهابي مسلم، والضحية مسلم، والبلد مسلم، والذريعة هي الدفاع عن الدين، وتلك خلطة سحرية لم تكن فى خيال المبدعين من قصاصي الخيال العلمى.
صحيح أن صرف الانتباه عن المشروع الصهيوني كان هاجس واشنطن؛ حيث قررت بعد التقارب المصري الصهيونى 1979 أن إسرائيل لم تعد عدواً، وأن العدو هو الاتحاد السوفييتي والمادية الإلحادية الشيوعية، وقد نجحت واشنطن في توجيه العالم العربي إلى تصفية الإمبراطورية السوفييتية والتورط فى صراعات بينية.
وعندما اعتمد الغرب الإسلام عدواً بديلاً عن سقوط الشيوعية لم نكن نتخيل أن الإسلاموفوبيا فى بلادنا أشد نكيراً مما هو في الغرب وضد الأقليات الإسلامية التي تعيش هناك، بل إن صورة الانقسام الإسلامي الطائفي والسياسي الحادث الآن قد فاجأت الجميع على الأقل بهذا الحجم الذي صرف المال والجهد وأسال الدماء فى غير قضية، بينما تنعم إسرائيل برعاية مشروعها فى تدمير العالم العربي بأيدي أبنائه.
وما كان للصهيونية أن تصل إلى هذا الحد لولا أنها توغلت في الجسد العربي ووظفت بعض قياداته لخدمة المشروع السرطاني، فنشأت قبيلة متزايدة العدد هي الصهاينة العرب، وهم أكثر نجاحاً في ضرب الأوطان العربية من الصهاينة أنفسهم، لكنهم لا يزالون مكروهين من الشارع العربي.
ويبدو أن الاضطراب العربي وغياب البوصلة قد بلغ مبلغاً خطيراً، عندما تتردد أفكار مثل تشكيل قوة عربية مشتركة، فكيف ولماذا وهل غاب عنا تاريخ النكبة حين تحمل المصريون وحدهم العبء فى مواجهة العصابات الصهيونية، فكانت تدخلات مجلس الأمن بهدنتين والصراع بين الفلسطينيين والملك عبد الله الهاشمي على فلسطين لمن بعد فوز العرب! قد دفع مصر إلى العزوف عن هذا الصراع السياسي الذي كان سبباً فى الأداء الهزيل، بل وتسليم مدن في فلسطين، جزاء للعرب علي عدم حسم هذه المسألة. فهل هذه القوة التي ليس لها نصيب من المنطق، إن تشكلت جدلاً لها وظيفة محددة؟ إذا كانت سوف تتدخل في ليبيا فليس هناك توجه عربي عام أو دولي بالتدخل العسكري، لم ستتدخل لإسقاط النظام في سوريا وسط تعقيدات سياسية وعسكرية هائلة، أم ستضرب الإرهاب في سوريا والعراق الذي لا تتوافر إرادة دولية لضربه، أم في اليمن ضد الحوثيين أم ضد إيران وهو أمر لا يحتاج إلى تعليق لفرط عبقريته إن كان مطروحاً. وممن تتكون القوة ، قطعاً قوامها الجيش المصري وتكون القوة غطاء، وهذا جزء من المؤامرة على هذا الجيش لا أقبلها كمواطن على الأقل. وأين مقر القوة وقيادتها وميزانيتها ومن يتخذ قرار استخدامها؟ وما موقف إسرائيل منها خاصة إذا استهدفت حماس أيضاً؟ وهل تختلف عن القوة التي اقترحتها الجامعة العربية للتدخل في غزة لتحريرها من الانقلاب كما تسميه وإعادة غزة إلى أحضان أبومازن والشرعية؟ وقيل إن هدفها عام 2009 هو حماية الفلسطينيين من العدوان الاسرائيلي.
وما دامت الجيوش العربية قد انشغلت في الصراعات الداخلية وآخرها الإرهاب، فهذا نجاح باهر للمشروع الصهيوني حتى يقضى الإرهاب على هذه الجيوش، فلا جدال عندي في أن لإسرائيل يداً طالت أم قصرت في هذا الإرهاب يجب تبينه من جانب عقلاء الأمة.
أيهما أكثر كلفة ردع المشروع أم التخبط في مواجهة عدو شارك العدو في صناعته؟ واكتشاف الأمر لا يحتاج إلا إلى أمانة وعزيمة الكشف وليس التماهي مع المشروع.
لقد حذرنا مئات المرات أن إسرائيل انتقلت من تصدي العرب جميعاً لها إلى التسلل تحت وهم السلام لتدمير اللحمة العربية، فنفذت إلى الجسد العربي، فماذا تتوقع بين الجسد والسرطان؟ لقد أدرك النقراشي باشا الذي رأس الوفد المصري في الأمم المتحدة هذه الحقيقة عام 1948 وهو الذي شهد إرسال الجيش المصري إلى فلسطين، ولو قدر للجيش المصري أن يكمل مهمته يوم ضرب تل أبيب بالطائرات كما تحولت سفنه المدنية إلى سفن حربية لما كانت العصابات الصهيونية قد استقرت في قلب مصر والعرب، ولولا الصراعات العربية الرخيصة، وقبول الهدنتين من مجلس الأمن لكانت مهمة الجيش المصري قد انتهت رغم احتلال الإنكليز من هذا السرطان.
ولا بد أن نسجل في هذا المقال أن الجيش المصري كان دائماً ضحية القيادات السياسية والعسكرية، وعندما أتيح له الفرصة أدى دوراً مبهراً عام 1973 فسجل شارون في مذكراته أن إسرائيل قررت الخلاص بالسياسة من الجيش الذي فشلت في هزيمته بالحرب، كتابنا "الفكر الصهيوني في مذكرات أينشتاين وشارون"، القاهرة 2003، وقال شارون إن مصر إذا قامت، وإذا أتيح للجيش أن يحارب فعلاً فهي نهاية إسرائيل مهما كان الدعم الأميركي الكامل. انظر في تفصيل ذلك أيضاً كتابنا "العلاقات المصرية الإسرائيلية في ضوء معاهدة السلام" ، القاهرة 2010.
إن الجيوش المحيطة بفلسطين تقع في صلب المؤامرة فتسببت المغامرات في تدمير الجيش العراقي وإهدار قدراته، سواء في الحرب العراقية الإيرانية، أو الغزو العراقي للكويت 1990 ثم الغزو الأميركي للعراق 2003 ثم تم حل الجيش العراقي وإشعال الطائفية، بدور صهيوني مبين.
كذلك الجيش السوري الذي ورطوه في موقف معقد وحالوا بين الجيشين السوري والمصري حتى لا تقع إسرائيل مرة أخرى بين شقي الرحى.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.