بين اللجوء والمخيم حكاية

مُهَاجِر أو لاجئ كلمة رافقتني منذ أن التَحقت بمدارس الغوث وتشغيل اللاجئين وإلى اليوم تلاحقني وأحاول أن أجتازها، لكنها الحقيقة التي لا مفر منها.

عربي بوست
تم النشر: 2017/08/27 الساعة 04:00 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/08/27 الساعة 04:00 بتوقيت غرينتش

مِنْ بين أزقة المُخَيَّمَات حِكَايات لم تُسْرَد وأحْلامٌ لم تُرَاوِدنا وعَيْش تَحْتَ سقف… لمْ تَرّتَضِه أنفسنا، أن تعيش في مُخَيَّم مكتظ بالسكان؛ حيث تتلاصق المنازل ببعضها فلا وجود للخصوصية، المخيم حيث الخدمات التي لا تصلح ولا ترقى لأي مستوى من الإنسانية، فالمخيم من وجهة نظر اللاجئ كلمة جامعة تجمع ألوان العذاب وأصناف المعناة، تجمع الظلم والتشرذم والضياع، كَنْتُ صَغِيراً تَرْبِيت وتَرَعْرَعْت في أحضان المُخَيَّم وبين أزقته وشوارعه الضيقة التي تكاد تتجاوز المتر عرضاً؛ أستغرب كيف كُنَّا نلعب كرة القدم وكيف نجوب شوارعه، المخيم كان في صِغَرْي شيئاً كبيراً وما زال… لكن ليس حباً بطبيعة العيش فيه إنَّما لِذكْرَياتي فيه فقط… لمْ أكن أعِي ولم أكن أعلم أن هذا المُخَيَّم هو مُخَيَّم لُجُوء فَكَبِرْتُ وعلمت أن هذا المُخَيَّم عبارة عن مرحلة وسنرجع لبلادنا الأصلية؛ حيث المروج والكروم، حيث الطبيعة الغَنَّاء، حيث الماء والهواء، حيث الحرية والكرامة، لكن قد طالت غيبتنا وطال انتظارنا.. فجدي الذي هُجّر منها وهو ابن الثامنة عشرة قد جاوز الثمانين ورحل إلى ربه حَالماً بالعودة.

مُهَاجِر أو لاجئ كلمة رافقتني منذ أن التَحقت بمدارس الغوث وتشغيل اللاجئين وإلى اليوم تلاحقني وأحاول أن أجتازها، لكنها الحقيقة التي لا مفر منها.

فكلمة مُهَاجِر تعني للوهلة الأولى أنك ارتَضَيّت الهِجْرَة وعند سماعك قول الله في آياته: "إني مهاجر إلى ربي سيهدين" تعرف من مُقتضى الآية أن الهِجْرَة عِبارة عن هجْرَة طوعية اختيارية، إن الفلسطيني الذي هاجر من وطنه تحت القصف والمدافع تحت أسراب من الطائرات تَفْتِك به صباحاً ومساء، وهو لا يملك شيئاً يُدَافِع به عن نفسه هو في الحقيقة مُهَجْر، وليس ُمهَاجِراً، فهذه الكلمة عندما تُسْقَط علينا كوننا فلسطينيين أرفضها، كَبرت وعندما قَلَّبْتُ صَفَحَات تاريخ هِجْرَتِنَا رأيت تخاذُل أُمَتِنَا وتقاعس العرب عن نجدتنا بلّ علمتُ بأطماعهم في دولتنا.

علمت عندما كَبرت تخاذُل الجَامِعَة العربية وأعضائها في رفض فكرة إنشاء دولتنا وتحالف بعض الدول العربية مع الانتداب البريطاني وفرض القرارات والصكوك لصالح الجمعيات الماسُونِيَّة بِغطاء من بريطانيا آنذاك، هذا لا يطفح إلى الإعلام؛ لأن المصلحة الحالية تقتضي ذلك فمجزرة دير ياسين لم تَخْتَلِف كثيراً عن مجزرة حَمَاة وأوضاع اللاجئين في لبنان لَتُنْذِر بِشُئم الواقع وحقيقةٍ مُرَة تُدْمِيّ القلب والعين.

بلادي بلادي بلادي.. يا أرضي يا أرض الجدود.. فدائي يا شعبي يا شعب الخلود.. كنت في صَبِيحَة كُل يوم أردد النشيد الوطني الفلسطيني رافعاً الرأس شامخ الهامة، معتزاً وحالي حال كُل فلسطيني يَعْتَز بهويته وبوجوده والحفاظ على وجوده، فالفلسطيني لمْ يُعْدَم وَطناً ولمْ يُعْدَم هوية.. فنحن نعتز بهويتنا وأصالتنا الكنعانية واليابوسية والعربية، فنحن لنا ثقافة متراكمة منذ آلاف السنين نحتفظ بها ونمارسها ونورثها أيضاً.

فثوب جدتي المزخرف والمُطَرّز بالأصالة الفلسطينية، هذه الجدّة التي رُبَما لمْ تكن تعلم وهي تَحِيك وتُطَرِز هذا الثوب أن مع كل نَقْشَة وتَطْريزة، كانت تَنْقِشُ في صفحات قُلوبنا حُب هذا الوطن، فالدبكة الفلسطينية والميجانة وزريف الطول وغيرها.. هي ثقافة لا يطويها النسيان، بَل ويَعْشَقُهَا الجنان.

لمْ أُعَاصِر الانتفاضة الأولى، ولكني عاصرت الانتفاضة الثانية ورأيت كيف أن هذه الأزقة التي ووَسِعَتْنا لِنَلْعَب كُرة القدم كيف وَسِعَت وخدمت المجاهدين.. ورأيت شوارع المخيم مخضبة بدماء الشهداء تفوح بقيمة سامية ومكانة عالية من الوفاء والتضحية، عشت في المخيم مع أطفال تَركُض خلف دبّابَة مُمسكين بِحجارة وقنابل حَارِقة كانت تُسَمَّى "المولوتوف" في المُخَيَّم أشياء كثيرة تميزت بِطابع من المغامرة في الغالب، فذهابي إلى المدرسة كان مغامرة وذهابي إلى البيت كان مغامرة… في المدرسة كان هناك بابان، باب رئيسي وباب مُخَصَّص للطَّوَارِئ حين نسمع القصف وزخات الرصاص تَضْرِب وتَفْتِك بِالمَنَازِل التي حَوْلَنَا نَخْرُج وبوضّعيات قد عَلمونا إياها مُسْبَقاً لِنَتَفَادى الرصاص بالرأس.

بعد اجتياح جنين نظرت إلى الشاشة لأشاهد طفلة فلسطينية فوق بيتها الذي قد سِوِيّ بالأرض فيسألها المذيع عن حب المخيم؛ لتقول وفي عينيها ترى النار يأكل بعضها بعضاً: أفديه بروحي المخيم، ووجهت كلمة لشارون رئيس الوزراء الإسرائيلي حينها قالت فيها: "سنعيش صقوراً طائرين ونموت أسوداً شامخين".

في المخيم أطفال بعمر الزهور تُسرق أحْلامُهُم بِطَلق طائش، كما يقال، فالحديث عن المُخَيَّم يَطول، وسَرد قِصَصّه تَكاد لا يَسعها مقال أو كِتاب.

وبالاستطراد قليلاً… فالشعب الفلسطيني المهجر والقابع تحت غطرسة الاحتلال الإسرائيلي ولؤم وموت الضمير العربي والعالمي يعرف جيداً مُعاناة من يقاسي الآن ويلات التشرد والتذبذب بين الدول، فالشعب السوري البطل يموت في الشتاء برداً والبحر غرقاً، وفي الداخل حرقاً، تحت نار وجحيم القصف السوري والروسي، فالبحث عن حياة لا تتطلع لأدنى حق من حقوق الإنسانية أصبحت مَطلباً للاجئ السوري.

وفي نهاية المطاف نقول: واهم مَن يظن أن الشعب الفلسطيني يرضى بغير أرضه، أو يتنازل قدر أُنْمُلَة عن حقه… فهذا الطفل الذي تربى في أحضان المخيم وعاش مَرَارة التهجير والحروب لا يُنْتَظّر منه إلا أن يكون وحشاً قاسياً يدك أعداءه في كل مكان تحت أي سماء وفوق أي أرض.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد