بينما يتردد صدى أمواج البحر المتلاطمة على مسامعي، وأرى ارتطامها بين الفينة والأخرى، بينما تبحر مراكب الصيد بعيداً إلى أن تختفي في الأفق، وبينما تحلق طيور النورس ذهاباً وإياباً باسطة جناحَيها على مرأى من عيني، جال ببالي حديث دار منذ أمد ليس ببعيد، يخبرني فيه صاحبه أن في الصبر ضعفاً وارتخاء وحاجة، بعد أن كنت قد أخبرته نقيض ذلك تماماً كون الصبر قوة وعزيمة وتمكناً، حديث لم يمر مرور الكرام، بل ترك استفهاماً كبيراً.
أنا الجالسة هنا على الشاطئ، بين الضباب الذي يعمّ المكان والرمال الرطبة والبحر الخفيف.
شيئاً فشيئاً أخذ المد يعلو، والموج يقترب رويداً للمكان الجالسة فيه، أحمل كل ما يخصني وأغير المكان عائدةً إلى الوراء، أعود وأجلس أحدق ثانية في الأمواج التي أخذت تعلو أكثر وأكثر، وقد أصبح صوت ارتطامها يدوي مرتفعاً، تصلني مرة أخرى وأغير المكان وفي كل مرة يتردد السؤال في ذهني: هل في الصبر شجاعة أم استسلام؟ هل في التحلي بالصبر تشبث أم تكاسل؟ ظلت الأسئلة كذلك تتوالى عليّ إلى أن وصلت البيت، أخذت حاسوبي وجلست أدوّن ما يلي.
منذ أن وعينا على هذه الدنيا، ونحن في صدام مستمر مع ما تخفيه لنا الحياة، فالحياة غدت بالنسبة لنا مضمار سباق نلاحق فيه أحلامنا وطموحاتنا، حواجزه الصعوبات والتحديات التي قد تكون أحياناً من السهل تجاوزها، وأحياناً أخرى صعبة المنال تشقي صاحبها وتفقده القدرة على التحمل، فينتابه الغضب والقلق والتذمر مما آلت إليه الأمور، فيكون المآل التراخي والاستسلام، اللهم إن كان ذا عزيمة قوية، مصمماً على جني ثمار مجهوداته، أكان الأمر هيناً أم عسيراً.
هنا يأتي دور الصبر في وجه هذه الضغوطات، خاصة حين يكون الأمر عسيراً مستعصياً، يستلزم بذل الجهد والمحاولة مرات عديدة، آنذاك يكون على المرء أن يتحلى بالصبر كونه الزاد الوحيد لصاحبه، يمده بالطاقة التي تؤهله لتجاوز المشكلات دون تشوش ولا اضطراب ولا انزعاج، كما يمنحه الشجاعة والدافع القوي للمواصلة والقدرة على التحمل والانتظار الطويل -تارة- لينال ما يطمح إليه، وهو الذي قال في كتابه جل في علاه "فصبر جميل".
فالصبر وإن بدا صعباً ثقيلاً، بدونه لن نسعى في سبيل تحقيق أهدافنا، وإنما سنسعى لتحقيق أهداف الغير بالاستسلام والتراخي، وإن كانت لا تصب في مصلحتنا وسيصير الصبر حينها رمزاً للضعف بعد أن كان رمزاً للقوة.
يصير الصبر ضعفاً كلما فرط الإنسان في راحته وسعادته، وكلما تنازل عن استقراره وراحة البال التي يتمتع بها في سبيل أشياء أخرى لا تغنيه في شيء سوى ما جلبت له من ظلم وعذاب وقهر للنفس والذات.
التحلي بالصبر يجب أن يكون ذا منفعة بالنسبة للأنا أولاً ثم الآخر ثانياً، وإن كان في ذلك مجلبة لأي ضرر ولو كان بسيطاً فليس المرء مجبولاً على أشياء من شأنها أن تضره. لا أقصد بكلامي أية أنانية، ولكن ولنفسك عليك حقاً.
ختاماً.. الصبر هو ما دفع بالمرء لتحقيق ما هو أفضل والمضي قدماً نحو ما يطمح إليه، لا الاستسلام ولا الخنوع لضغوطات خارجية لن تزيد إلا من تأزّم الأوضاع.
الصبر هو عامل قوة نحو حياة مبنية على النضج والوعي، حياة قوامها العزيمة والتحدي لتحقيق الأهداف.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.