"ما زلت أتذكر ساعات السقوط الأولى عندما رفرفت رايات تنظيم داعش السوداء فوق المباني، والجيش العراقي يسحب قواته ويغادر مدينة الموصل، حينها خرجت مهجَّراً من بيتي نحو مخيمات النازحين في أربيل. مشينا في حر الصيف، وطلقات الأسلحة تتطاير فوق رؤوسنا، ولم نأخذ معنا سوى ملابسنا التي نرتديها".
بهذه الكلمات يصف المواطن أحمد النعيمي مقدار الأسى الذي ضرب آماله وحطم معها جميع الأمنيات؛ إذ يشكي حاله لله رب العالمين ويطلب الرحمة منه وحده، بعد أن خذل السياسيون شعبهم وصفعوا حقوق مؤيديهم بسياط المصالح وتبادل الوعود المتطايرة في الهواء.
ليس رقماً يضاف إلى الإحصائيات فقط، بل إن ثلاثة ملايين عراقي شهدوا أكبر كارثة حلّت بمدينتهم، وتحوّل تاريخها العتيق إلى حطام لا يصلح لتخليده إلا في سجلات النكبات، والفضل يعود لتنظيم داعش الإرهابي الذي سيطر على مدينة الحدباء في يونيو/حزيران عام 2014، مخلفاً دماراً عارماً بنسبة تتجاوز الـ80% بجانبها الغربي، و30% في جانبها الشرقي.
كانت هذه حكاية الانكسار الأخيرة في مدينة الموصل بمثابة موجة للتطوع في صفوف الجيش العراقي بإدارته الجديدة، فقرار الحماية لا يرضاه أبناء الأرض إلا أن تكون تحت وصايتهم؛ لأنهم أجدر الناس بصيانة أرواح أهلهم وشعبهم.
عمليات التحرير والمرحلة القادمة
تمكنت القوات العراقية، المدعومة من التحالف الدولي، من استعادة الموصل، بعد طرد عناصر تنظيم داعش في معارك متواصلة استمرت نحو 9 أشهر، قبل أن يعلن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي نجاح العملية واستعادة الموصل بالكامل.
وأدت المعارك الطاحنة التي جرت بين القوات العراقية والإرهاب في مناطق كثيرة داخل الموصل، إلى مقتل الآلاف من المدنيين، وتشريد قرابة مليون ونصف مليون عراقي من أهالي المدينة، إضافة إلى تدميرها بشكل شبه كامل… لكن ما زال هناك أمل يعلو فوق التحديات بهمة الشباب وإصرارهم على إصلاح ما أفسدته الحروب المتتالية.
أسباب التطوع في السلك العسكري
انضم الكثير من العراقيين إلى الجيش، وتعددت أسباب انضمامهم، وخصوصاً بعد إعلان استعادة المدينة من قبضة التنظيم، وأبرز الأسباب تكمن في خسارة المواطنين لبيوتهم وورشات عملهم البسيطة، إذ لم يعد بمقدورهم تحمل تكاليف التهجير والحصار الذي استمر لمدة تزيد عن 3 سنوات مريرة، ما دفعهم لتسجيل أسمائهم في قوائم المتطوعين في الجيش، فهم يخاطرون بحياتهم من أجل توفير الطعام لأطفالهم في ظل تقاعس الحكومة العراقية عن تعويض ما فقدوه.
الفقر والجوع وتحول كل شيء إلى سراب كان كفيلاً بأن يمضي الموصليون نحو عدم تكرار سيناريو الاحتلال الجائر الذي لا يفقه سوى تشويه الدين الإسلامي ونسف قيم العيش السلمي المشترك بين مكونات نينوى التسعة التي عاشت بوئام طيلة قرون طويلة.
وأهم الأسباب التي كانت جديرة بالانضمام لصفوف القوات الأمنية هي التعلم من درس أليم كان قد حدث منتصف عام 2014، عندما انسحب الجيش تاركاً المدنيين بلا حماية والتضحية بأرواح الناس والخروج من المدينة في ساعتين فقط، فكانت فرصة مباشرة لاحتلال الموصل من قِبَل تنظيم داعش الإرهابي.
جاء قرار فتح باب التطوع بعد أن فشلت الإدارة السابقة أثناء حكم رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، وتركت أراضي المدينة وهربت كما القطط ووضع الجيش أسلحته ومعداته لعناصر تنظيم داعش وضحّى بالمدنيين، حتى رصد التاريخ وصمة عار على العسكريين آنذاك، الأمر الذي أدى إلى زعزعة الثقة بين المواطنين الموصليين ورجال الأمن والعسكر.
هذه دعوة لاستعادة الثقة بين الطرفين للاشتراك بحماية نينوى، والابتعاد عن الاتهامات التحريضية وغلق أفواه الأبواق الطائفية التي تحاول تفكيك النسيج المجتمعي وخلق أزمات جديدة تكسب المصالح للأجندات الخارجية.
مشكلة السلاح ودور أصحاب القرار العسكري
يؤكد الكاتب والباحث السياسي حسام بوتاني ضرورة حل إشكالية الفصائل المسلحة والمناطق التي تسيطر عليها هذه الفصائل المسلحة قائلاً: "هناك 10 فصائل مسلحة شاركت في عمليات تحرير نينوى، وهذه الجهات القتالية لن تتخلى عن تذكرة مشاركتها على مصالح نينوى في المرحلة القادمة"، محذراً انتشار السلاح الذي سيصبح ربما سبباً مباشراً في تعقيد الوضع الأمني، واستمرار القتل والتصفيات الحزبية لكل جهة شاركت في التحرير.
لمن لا يعلم أبعاد الفصائل المسلحة التي تتبع أجندات داخلية وخارجية بذريعة حماية المكونات المتنوعة في مناطق سهل نينوى والأقضية والنواحي التي تحيطها لن تقدم هذه الفصائل دماءها بلا مقابل، فهي تريد المحاصصة على المناطق التي تحميها وأهم ما يشغلها آبار النفط والحصول على مقاعد إضافية في الانتخابات البرلمانية القادمة؛ لذا يجدر بالحكومة العراقية توحيد العناصر العسكرية في تنظيمات رسمية محددة، وتعطي قرار حق المصير لأهالي نينوى حصراً.
التعامل بحكمة والثقة هي الفيصل
شارك في عمليات التحرير تشكيلات مختلفة سواءً من جهاز مكافحة الإرهاب والشرطة الاتحادية وقوات البيشمركة الكردية والجيش العراقي وأبناء العشائر العربية، وفصائل مختلفة أخرى، والكل سيكون لهم دور فاعل في مسك الأرض ومناصرة المظلومين، فشكراً لهم على ما قدموه من تضحيات مشرفة ونترحم على الشهداء العسكريين والمدنيين المخلصين.
الجيش يجب أن يتعامل مع المدنيين بطريقة حضارية تشعر سكان المحافظة بأهمية وجود الاستقرار الأمني دون تحميل الأهالي ضريبة التشويه واتهامهم بالدعشنة؛ إذ سيولد قلق مستمر لدى الأجيال الحالية وستكون الخسائر كارثية، إضافة لذلك من الضروري جداً أن يتعاون سكان المدينة مع الجهات الأمنية بشكل عفوي يتضمن إعادة بناء الثقة وعدم السكوت عن الخلايا النائمة التي ما زالت تعبث بالبشر، وأن يساند الأهالي الجيش بتطوعهم حسب اختلاف مناطقهم منعاً للاختراقات الإرهابية.
نترحم على شهدائنا المخلصين من القوات الأمنية باختلاف تشكيلاتهم الذين حرروا المناطق بهمة وبسالة سيذكرها التاريخ، كما نترحم على المخلصين من المدنيين الذين استشهدوا كثمن باهظ لضريبة صد الإرهاب في العراق، وتحمل الكوارث في سبيل تعيش بقية المدن بسلام.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.