كنت أمشي على رصيف حلم أقضم خيباتي، أحاول التواري خلف أطياف العزلة، أتمتم حادياً بلحن معزوفة الحلم العربي، تلك المقطوعة التي لطالما هزّت تفاصيلي الصغيرة حين كنت طفلاً يصدق كل ما يبثه الإعلام العربي من مخدرات على شاكلة: "ده حلمنا طول عمرنا"، ظننته حلماً قريباً فإذا هو فصول من كوابيس تترى، تنزع الناس من الحياة انتزاعاً، وكأن الموت قدر أحلامنا قبل أن يكون قدراً نطبخ فيه كل يوم فلا ننضج، ولا يمكن أن ننضج وأن نتذوق مواعظ الموت ما دمنا نؤمن بالسراب، نؤمن بالخطاب، نؤمن بطواغيت لطالما أذاقونا السم في أحلامهم الصوتية التي تفعل في قلوبنا الواجفة الأفاعيل، فنعود أدراجنا مكبلين بحلم آخر، سرعان ما يغدو كابوساً مميتاً في واقع الموت العربي.
فتعالوا نكفر ساعة!
تعالوا نكفر بالأماني والأحلام العربية، فهي محض سراب بقيعة يحسبه المقهور جنةً، وإن كثر الباحثون عن الجنة في فصائل دمائنا المسكوبة بكرم على امتداد خطوط الطول والعرض، وإن تطاول الناهبون في حث هامانهم على تشييد صروح تعانق سحاب أمتنا المركوم بوجع الطعنات والخيانات، فقد ألفنا ترديد أناشيد الحياة والحرية، حالمين مطمئنين حتى يباغتنا الحلم على أبواب قبو أو قبر!
تعالوا نكف خبث أناملنا عن شاشات ذكية لم تفلح سوى في إظهار غبائنا أمام العالم، وهي تبتلع بطولتنا وشجاعتنا وفروسيتنا في ميادين الكلام والخطاب والتنابز بالذم والألقاب، فكم وكم تواعدنا وتوعدنا أن نذيق الذل نخب الموت، وكم تفانت حروفنا المسنونة في حز الألفاظ وتمزيق الجمل والتراكيب، وإهدار دماء المعاني على مذبح "أسد عليّ وفي الحروب نعامة"!
تعالوا نكفر بهم ساعة؛ لنرتق ثقوب ذواتنا المنزوعة منا، فما عدنا نعبد الله حق عبادته لنستحق منه أن يبلغنا الحلم، وما أفردناه بالتوحيد والتعظيم؛ لينتشلنا من حمق انتماءاتنا وانتصاراتنا الجاهلية التي نمعن في الاحتفال بوهمها كلما مر عام تلو عام على تيهنا الطويل في دروب الحضارة والحقارة.. فالله لا يقبلها إلا خالصة مخلصة لوجهه الكريم!
تعالوا نهشم أصنامنا، ونكفر إلى الأبد بهذه الأوثان الملقاة هنا وهناك هملاً على قارعة الوجود، لكل منها علم ونشيد.. وسائق وشهيد؛ لنجبر جناح كبريائنا المهيض، ولنحلق أحراراً كما كنا، وعظماء كما ألف التاريخ منا، فاتحين قلوب الخلق للخالق، ناشرين عدل شريعتنا في مرابع الظلم، ظاهرين بالحق تخشانا المنايا وتهابنا الأمم!
تعالوا نرثي حال العروبة لما تخلت عن سر مجدها، وطفقت تجاري مجاري أعدائها، حتى علقت بها القذارة وفاح منها النتن، واستوطنتها الجراثيم والقاذورات، وتكالبت عليها سيوف الغدر والعهر، وكبلتها القيود وأنهكها الأسر!
تعالوا نلقي في وجه الشتات نقع الإباء، ونرسم على جبين الأرض خريطة جديدة لأنفاسنا الثكلى، وآهاتنا الحرّة، ونزرع للربيع أزهاراً حقيقية ووروداً أبية، تقهر الباغي وتحفظ القضية.
تعالوا نكفر ساعة.. نكفر يوماً.. نكفر دهراً.. نكفر عمراً.. نكفر أبداً.. ونؤمن بالله وحده لا نشرك به طاغوتاً ولا صنماً، ولا حلماً عربياً!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.