لا صحة لتقارير انقسامات أو تمرد داخل تنظيم داعش في تلعفر ودير الزور، ربما حدثت حالات هروب لبعض القيادات الميدانية الصغرى من مناطق المحلبية والعياضية والقرى القريبة لزمار وربيعة وتلول العطشانة، عدا ذلك فقد تحريت الأخبار التي تنشر تحت عنوان "مصدر محلي" أو "مصدر أمني"، فتبيّن أنها متوهمة وبعضها متخيل، وأخرى تشبه تلك القصص والحكايات قبل تحرير الموصل عن قوات المقاومة المحلية "م" التي سمعنا بجعجعتها ولم نلمس طحنها.
نجح التحالف الدولي في تدمير مخازن السلاح وبيوت المال ومعسكرات التدريب ومصانع التفخيخ والتطوير الكيميائي والعسكري، ومدارس التأهيل العقائدي والسلوكي، ومراكز القيادة والتحكم الآمنة، مما اضطر القيادات الداعشية إلى التعامل مع هذا الضغط تحت قانون الأواني المستطرقة، والذاهب إلى المدن الهشة من ناحية الاستهداف والعودة للتخفي من جديد بطرق للتخفي أكثر تعقيداً من تلك المستعملة في أعوام 2013 – 2016، وأصبحت طرق التواصل والاتصال أكثر تشفيراً والعودة إلى الطرق الكلاسيكية والشفوية في موضوع الرسائل والبريد الخاص، واعتماد منهج اللامركزية في القيادة، وتم تخويل اللجنة المفوضة لإدارة 35 ولاية و14 ديواناً و5 مكاتب وهيئات خارجية، وبالتالي عزل البغدادي ومجلس الشورى والحل والعقد بشكل تام عن الميدان، وتم تكليف مجموعة صغيرة بحمايته ومتابعة أمنه حفاظاً على رمزيته، ومعظم القرائن تؤكد أنه لا يزال على قيد الحياة، وربما يتنقل في مناطق حوض الفرات بين سوريا والعراق.
استخبارات خلية الصقور العراقية وقسم مكافحة الإرهاب في المخابرات العراقية، وبالتعاون مع التحالف الدولي، استطاعوا تفكيك شفرات الهيكل التنظيمي في داعش، القيادات المؤسسة وقيادات الصف الأولى والقيادات الوسطى والميدانية والصغرى، وبذلك استطاعوا القضاء على معظمها وبتحييد وتجميد وتعطيل فاعلية الأحياء منهم، وفشلت أمنية داعش واستخباراتها العسكرية في المحافظة على هذه القيادات، فكان مقتل الشيشاني والعدناني والأنباري وأبو محمد فرقان وأبو أنس العراقي وأبو صالح حيفا من أكبر مصائب ونكسات داعش، وهذا دليل على اختراق التنظيم في هيكله المتقدم بمصادر من داخله، مصادر مباشرة تقدم المعلومات الحيوية والدقيقة مقابل المال أو المساومات المخابراتية الأخرى.
بحساب آثار معركة الفلوجة وما تلاها من تحرير الموصل، فقد صار واضحاً كيف تتأثر وتتهاوى قيادات وعناصر داعش بفقدان البيئة السنيّة التاريخية، وفقدانهم القدرة على الدعوة والتجنيد بعد افتضاح توحشهم أمام المواطن السني وعموم الشعب العراقي، وهو ما ظهر من كلام البغدادي في 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2016 حيث تهجم على أهالي الموصل بالذم والتجريح، ولذلك تعاملت وحدات داعش المعرقلة في أيمن الموصل بقذارة أكثر واختارت الانحياز إلى تكتيك الأرض المحروقة، وإظهار أهالي الموصل بصورة أكبر الخاسرين عند هزيمتهم، وإظهار مدينة الموصل مشوهة ومنكوبة، وبصورة تشبه مدينة الأشباح.
وفقدت المكاتب الخارجية للهجرة والتجنيد في داعش قدراتها على التأثير بالشباب العربي والأوروبي، وقد نجح الإعلام الغربي بما يمتلكه من مهارات ومهنية في توضيح صورة داعش وأخواتها المشوّهة، وكان الدور الأكبر في عرقلة عمل شبكات التجنيد للشيوخ الجهاديين الذين قاموا بمراجعات جهادية فكرية ومنهجية فقهية؛ لأنهم أضفوا الشرعية الدينية على هذه الجماعات في زمن سابق، والآن أخذوا القرار بسحب تلك الشرعية عن هذا الفكر ومن يؤمن به، ومن يقاتل ويقتل في سبيله، ولكن في الوقت نفسه ساهم العديد من الشيوخ غير الجهاديين في فضح غواية التكفير والتطرّف وتأثيرها على كثير من الشباب، وهو ما يجب استغلاله -عربياً- في مواجهة الفكر الجهادي التكفيري.
أبو أنس العراقي الذي قُتل في عملية دير الزور بعملية أحادية للوحدات الخاصة الأميركية بمطلع عام 2017؛ هو الحاج معن نعمان النعيمي أو أبو علي الشايب وهو مسؤول عن مالية داعش وعمل سابقاً مساعداً لأبي عمر البغدادي، وهو من الحلقة الصلبة والنواة المؤسسة في داعش، وكذلك قتل مساعده فواز جبير الراوي بغارة جوية للتحالف بالقرب من دير الزور في يونيو/حزيران 2017، من عشيرة الراويين السورية في البوكمال من مواليد 1977، ولديه خبرة في غسيل المال.
وغالباً ما تقرب اللجنة المفوضة أعلى سلطة تنفيذية في داعش، مسؤول بيت المال منها، ويقاس نجاح التنظيم الإرهابي بنجاح مسؤول الإدارة المالية فيه، ربما بقدر يوازي نجاح القادة العسكريين والأمنيين وقدرتهم على إدارة المعارك والعمليات الإرهابية.
وبشكل عام، داعش فقدت خبرات كبيرة في إدارتها المالية والاستثمارية وأصبحت بعد هزيمة الفلوجة وأيسر الموصل تعتمد في دخلها على المصادر التقليدية؛ في مناطق دير الزور والميادين والبوكمال والقائم وراوة وعنة ما تعرف بـ"ولاية الفرات"، عن طريق فرض الضرائب على الفلاحين وسائقي الشاحنات وأصحاب معامل الصناعية الصغيرة وعلى ورش تكرير النفط المحلية، وعلى البضائع المحلية التجارية وطرق النقل، وزكوات عروض التجارة وعوائد الاستثمارات الخارجية والداخلية في المناطق التي لا تزال محتلة والاستثمارات السرية في المناطق المحررة أو المستقرة نسبياً مثل حزام بغداد وأرياف ديالى وصلاح الدين، وبيع النفط لوسطاء محليين، وأرباح زراعة القنب الهندي وتجارة السلاح الذي استولوا عليه كغنيمة أثناء المعارك، والاتجار بالأعضاء البشرية للمخطوفين والسجناء وتهريب الآثار، هذه المصادر إذا ما استمرت فإنها تدر عليهم مبالغ تكفي لإدارة عملياتهم العسكرية لفترة قد تصل إلى سنة في العراق وسوريا، وتكفي لإدارة عملياتهم الأمنية في دول متعددة لفترة قد تصل لعدة سنوات..
تجفيف منابع تمويل داعش ليس بالمهمّة السهلة، طالما تطورت إدارة مالية داعش من الاعتماد على الأموال المخابراتية الخارجية وغير المخابراتية للمتعاطفين معهم، والتي تصل عن طريق الجمعيات الإغاثية والخيرية والدعوية والصيرفات وشركات الوساطة والتحويل المالي وشركات النقليات وخدمات الشحن، وبعناوين مختلفة إلى الاكتفاء الذاتي الداخلي.
مرحلة ما بعد هزيمة داعش عسكرياً ينبغي أن يكون اليوم التالي هو لتمكين الاستقرار والعدالة الانتقالية والمصالحة المجتمعية وترشيد الخطاب الديني، وكل ذلك يحتاج إلى مراكز بحثية يكون دورها الوحيد هو مراقبة الفكر المتطرف لتشخيصه ومعرفة أسبابه، وكتابة التوصيات والمقترحات من أجل المعالجة، وأيضاً ترشيد الخطاب الدعوي ومراقبة أدبيات المنظرين للتطرف والتصدي لها بالطرق القانونية والحجج العلمية الدامغة، وليس بالتهريج الطائفي والكذب الإعلامي المفضوح.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.