"قال مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى" (طه: 59)، اختار سيدنا موسى -عليه السلام- صباح يوم العيد موعداً؛ لكي يتحدى فرعون وسحرته، وليشهد كل الناس خزيَه في واضحة النهار، وحتى لا يجد ما يموه ويغلط به قومه، فلما خسر النزال، ووقع السحرة ساجدين، جنَّ جنونه فزمجر قائلاً: "لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ" (الأعراف: 124)، غفل أنه بمعاقبته للسحرة يثبت حجة سيدنا موسى -عليه السلام- ويؤشر على بداية نهايته أمام الأشهاد، لا سيما أنه قد استنفد جميع أسلحته، ولم يعد له سوى الإكراه والتعذيب والتنكيل.
هكذا هو الاستبداد في كل زمان ومكان في تعاطيه مع مَن يخلع ربقة عبوديته عن عنقه، تراه يناور، يشوه، يهدد، يعذب يَقتُل ثم يُقتَل "فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ" (الأعراف: 136).
يتساءل الكثيرون في الداخل والخارج: لماذا لا يسمح النظام المغربي للريف بأن يحتج بحرية، ويقي نفسه المتابعات الحقوقية وفضائح الصحافة الدولية والتكاليف الأمنية والسياسية للقمع؟
لماذا لا يسعى لكسب ود أهل الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان؟ مَن الرابح من مآسي التنكيل والتعذيب التي تتكرر كلما نادى منادي الحق "حي على الاحتجاج"؟
إنه الخوف، الخوف الذي تملك فرعون عندما بهَتَه مشهد سقوط السحرة ساجدين، الخوف من مشهد سقوط جدران لطالما تترّس بها في وجه طليعة العدل والحق، ولعل الاحتجاجات التي تعم البلد لهي أنصع برهان على سقوط هذه الجدران التي سنتناول أهمّها فيما يأتي.
سقوط جدار التروس المخزنية
لو كان الريفيون والمغاربة معهم، يؤمنون أن الحل والعقد بيد مَن ينتخبون من حكومات ومجالس، لجلسوا في بيوتهم إلى أن تتاح لهم فرصة تغييرهم عبر الصناديق الديمقراطية، لو كانوا يؤمنون بالأحزاب والجمعيات والنقابات لكانت خيارهم في إيصال تظلماتهم، والتعبير عن مطالبهم، لكن درجة التدجين التي وصلت إليها مكونات المجتمع، ومستوى الاختناق السياسي الذي تعيشه الحياة السياسية على علاتها، رسخ لدى شعبنا قناعة مفادها أن الذي يحكم لا يُختار، ولا يُحاسب، ولا توجد وسيلة من وسائل الحوار أو التداول على السلطة بإمكانها كبح جماح طمعه وطغيانه.
لذلك فالنظام المغربي يفهم من لجوء المغاربة للشارع مخاطبتهم لمن هم في سدة الحكم مباشرة بلا وسيط، كما تردد في شعارات الحراك المغربي "تقاد.. ولا خوي البلاد"، ولعل خرجة المستشار الملكي عباس الجيراري التي استنكر فيها تخلف الحكومة والأحزاب والمؤسسات عن أداء واجب "الضبط"، ووضع الملك في موقف "محرج" لأنصعُ دليل على أن "الصهد" وصلهم.
الموقف "المحرج" هو أن تحاور الملكية "الرعية"، وتتفاعل مع مطالبها، فلم تعتبر الملكية يوماً في المغرب شعبها كمواطنين كاملي المواطنة، لهم عليها حقوق وواجبات، بل هم في نظرها مجموعة من الرعايا الذين يجب أن يهلّلوا لما تجود به بالقدر الذي تريد، وفي الوقت الذي تريد، لا كما يريدون هم؛ لذلك لم تمنحهم شرف "الاستجابة" في خطاب 9 مارس/آذار، ولم ولن تمنحهم هذا الشرف لا في الريف، ولا في غير الريف.
سقوط جدار المنظومة الفقهية السلطانية
خروج الناس للشوارع يؤشر على نهاية مفعول فتاوى الطاعة العمياء، وحكم المتغلب، ومصادرة حق الأمة في اختيار مَن يحكمها، فبالرغم من تجنيد كل المنابر وتعبئة ديدان القراء، واختطاف خطب الجمع، وحصار الرأي المخالف، فإنه يبدو أن هناك منظومة فقهية جديدة تتبلور داخل المجتمع، منظومة تتجاوز تاريخ الأمة الانبطاحي لحكام الجور بحجة طاعة أولي الأمر؛ لتتمثّل قيم العدل والكرامة والحرية الساطعة في كتاب الله تعالى، وفي سير الرجال من عباده القائمين بالحق.
سقوط جدار بُعبع القمع
بعد أن احتكر فرعون ثروات البلد "وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ" (الزخرف: 51) وشوَّه واستهزأ بكل طالب للحق "أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ" (الزخرف: 52)، واستبد برأيه وفكره "قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ" (غافر: 29)، لم يعد يمتلك سوى الحل القمعي من أجل تخويف الناس وإرغامهم على الدخول في طاعته وأمره "لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ" (الأعراف: 124 ).
فلما جرب أولو الأمر منهم كل ما سبق مع أهلنا في الريف، لم يعد في جعبتهم إلا ما يقطع الأيدي والأرجل جواباً للثائرين على ثورتهم، وخوفاً من أن تهدم صيحاتهم في الشوارع جدران الخوف في أنفس الصغار والكبار التي سعى طويلاً وجاهداً لتشييدها عبر آلاته القمعية والإعلامية؛ لأنه يعلم يقيناً أن نظامه أضعف من فكرةٍ.
"فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا" (طه: 72).
سقوط جدار أكذوبة الاستثناء
سعى النظام المغربي جاهداً منذ ما عرف بالربيع العربي لتسويق نموذج "مغرب الاستثناء"، ذاك "الاستثناء" الذي عرف كيف يتجاوب مع مطالب الشارع مع الحفاظ على السلطة المركزية واستمرارية الدولة؛ لكي يكسب ثقة أصحاب الأموال هناك قروضاً واستثماراً، فضلاً عن التزلف إلى أصحاب السلطة منهم ويظهر بأنه القادر على ضمان مصالحهم المادية والمعنوية في "الضيعة"؛ لذلك فإن تصاعد الاحتجاجات التي تنتشر في البلد انتشار النار في الهشيم يضع أصحاب المصالح المُقتاتين بعرق الشعب المقهور أمام عوراتهم التي بذروا الأموال الطائلة لسترها بمساحيق التجميل الحقوقية والتنموية والديمقراطية، بل يعرضهم لمزيد من الإذلال والابتزاز لمن يحفظون عروشهم في الضفة الأخرى.
سقوط جدار "النموذج" الاجتماعي
انطلقت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية سنة 2005، وأنفق عليها إلى اليوم أزيد من 30 مليار درهم، لكنه وبعد اثنتي عشرة سنة يصنف المغرب في المرتبة 123 تحت ليبيا المنكوبة، بعد اثنتي عشرة سنة لا زال المغاربة يطالبون بمستشفى وجامعة ونقل، واقع يكشف بؤس مشاهد توزيع "الحريرة" و"قوالب" السكر التمثيلية، ويضع لقب "ملك الفقراء" على محك الهشاشة والحرمان الذي يكتوي بلظاه الأغلبية الساحقة من المغاربة.
أمام هذه الجدران المتساقطة بفعل شموخ وبسالة شعبنا الأبيّ لا تنتظروا من العقيدة الفرعونية غير ما جُبلت عليه من استعباد واحتقار وقهر، كما لا تنتظروا من العقيدة المُوسَوية غير ما وفقها الله إليه من ثبات وصمود وتضحية.
"إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ" (هود: 81).
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.