رغم احتكار الذكور -على مر التاريخ- للنضالات الشعبية، وظهور المرأة كجزئية هامشية منحت رونقاً خاصاً لتلك الحركات، فإن مشاركة العنصر النسوي، وإن كانت ضئيلة على مستوى الحجم والمساحة، فإنها مثَّلت جزئية رئيسة وبطولية داخل تلك الحركات بكل ما للكلمة من معنى في كثير من الأوقات والمواقف وحتى في أصعب الظروف، وفي لحظات الحسم أيضاً.
كما كان للمرأة دور قيادي مستميت في تلك الكفاحات التي تعاملت معها بحنكة وبروح مسؤولية، حسمت في النهاية، الموقف لصالح حمل هؤلاء النسوة مشعل البطولة ووسام الفخر الذي سجَّلهن في كتب التاريخ بمداد الاستحقاق والجدارة لا بمداد المجاملة أو المحاباة التاريخية.
في التاريخ الأوروبي المليء بالبطولات، كما في باقي تاريخ الإنسانية، نتحدث كثيراً عن الفتاة -القديسة- الفرنسية، جان دارك، التي قادت جيشاً من الرجال ضد الاحتلال الإنكليزي فيما يعرف بحرب الـ100 عام، والتي حوكمت في النهاية بالخوزقة والحرق حتى الموت، قبل أن تفقد إنكلترا جميع المقاطعات الخاضعة لها على التراب الفرنسي.
في عالمنا العربي أيضاً، خلَّد تاريخ الكفاح أسماء نسوية كبطلات؛ لأنهن قُدن حركات كفاح وتحرر ضد الاستبداد، سواء كان في ظل استعمار أجنبي أو سلطة حاكمة، وهن كثيرات، غير أن بضعة أسماء تحضرنا كثيراً؛ نظراً إلى الشهرة التي اكتسبنها، كالجزائرية جميلة بوحيرد التي كُتب عن نضالها البطولي الكثير من المقالات، وحتى الشعر الثوري خلَّد ذكرها، كتلك القصيدة الشهيرة لنزار قباني؛ اعترافاً وتأثُّراً بصلابتها ضد المستعمر الفرنسي الذي نكَّل كثيراً برجالات الثورة الجزائرية وبنسائها، وبسبب صبرها على التعذيب وسياط الجلادين.
في المغرب، وخلال حكم الحسن الثاني، برز اسم سعيدة المنبهي التي لُقبت بعروس الشهيدات؛ بعدما سلكت طريق اللارجوع أو التراجع عن القناعات التي نشأت عليها في فترة صراع محموم بين فصائل اليسار الثوري والسلطات، وتقلدت وسام الشهادة بعد 36 يوماً من الإضراب عن الطعام؛ تحدياً لاستبداد النظام.
اليوم، وبعد مسرحية "المصالحة والإنصاف" التي خصصت لها الدولة، بدايةَ "العهد الجديد"، ميزانية مهمة؛ لجبر بعض الضرر المادي الذي لحق ضحايا "سنوات الجمر" جراء الاعتقال التعسفي والتعذيب والطرد من الوظيفة أو من الدراسة وغيرها من الاعتداءات الجسيمة، دون أن يطول هذا الجبر، الضررين المعنوي والنفسي؛ بسبب عدم القصاص من الجلادين المتورطين في تلك الجرائم غير الإنسانية، وامتناع الدولة عن الاعتذار الصريح للضحايا وذوي الهالكين كما تفرض القوانين والتعهدات.
وهاتان النقطتان هما أساس الانتقال الديمقراطي؛ فإن تلك السلوكيات المنافية لحقوق الإنسان والتي حاولت الدولة تغطيتها بقناع الإصلاحات الديمقراطية والدستورية والانفتاح المزعوم الذي يحاول المغرب الظهور به أمام العالم- قد تعرت كلياً، والعالم يشاهد ويتابع تخبُّط الدولة في التعامل مع أزمة "حراك الريف".
ودخول المعتقلين السياسيين، ومن بينهم الناشطة "سيليا"، الأنثى الوحيدة بين المعتقلين، في إضراب عن الطعام، هو تأكيد على أن الأزمة قد أمستْ أمام الباب المسدود ولم يعد هنالك أمل في رضوخ الدولة وتسليمها بالإجماع الشعبي والسياسي والحقوقي على عدالة القضية وسلمية النضال وبراءة النشطاء المعتقلين، ولا يمكن النظر سوى بتشاؤم كبير نحو ما قد تتطور إليه الأمور بخصوص هذا الإضراب البطولي، في واقع اجتماعي واقتصادي وسياسي وحقوقي أفلس نهائياً من كل جوانبه، وقد أمسى على الحضيض.
"سيليا"، هذه الفتاة التي اعتُقلت بالخطأ في المكان والزمان الخطأ، بتهم لم نستطع حتى اليوم فهم مضمونها بالتحديد، هذا في وقت ينعم فيه ناهبو المال العام بالحرية- تحولت إلى رمز وأيقونة للانتفاضة المباركة التي يشهدها الريف الأَبيّ، وبقاؤها رهن الاعتقال بسبب دعمها للحراك بغنائها وفنها المدافع عن قضية آمنت بها، رغم أنها لم تحرض ضد أحد ولم تروج لكراهية أو عنصرية وهي الإطارات الثلاثة التي تحدد حرية التعبير، كما وقع عليها المغرب في مواثيق الأمم المتحدة.
ووجودها في المعتقل هو خطأ جسيم ترتكبه الدولة، ليس في حق هذه الفتاة فقط، وإنما في حق نفسها أيضاً بما لذلك من نتائج عكسية على صورتها، حيث فضحت بنفسها تضليلها وبخست كل إصلاحاتها فيما يهم حقوق المرأة ومزعت الثقة عن نفسها.
جان دارك وجميلة بوحيرد وسعيدة المنبهي وأخريات، هن مناضلات حوَّلهن الاستبداد إلى أسطورات، ولولا غياب الديمقراطية والعدالة لما صرن رموزاً في السياسة والنضال. فهل سيصنع الاستبداد المغربي، بعد مسرحيات الانتقال الديمقراطي والمصالحة وخطاب 9 مارس/آذار ودستور 2011، من جديدٍ، اسماً آخر ينضاف إلى تلك الرموز، ليتحول بدوره إلى أيقونة، ليس في المغرب فقط، وإنما بكل العالم في ظل "العولمة الرقمية"؟
أيقونة ورمز ستحاكَمان بهما الدولة بتهم رعاية الطغيان والاستبداد عبر حكوماتها ومؤسساتها الفاسدة، وتوفير الحماية والإفلات من المحاسبة والعقاب للجناة الحقيقيين وللجلادين ومن يهددون استقرار الوطن بانتهاكهم حقوق وحريات المواطنين، ودليلنا في ذلك العشرات من القضايا الكبرى والجسيمة التي تورطت فيها المؤسسات الأمنية منذ الاستقلال إلى اليوم، ودون أن يطبَّق على المسؤولين المعنيين فيها، العقاب المناسب المنصوص عليه في القانون الجنائي المغربي.
وفي عصر ثورة الإعلام والتواصل والضغط الحقوقي الدولي وتأثيره في تغيير موازين وسياسات دول عظمى تجاه حكومات وأنظمة متهمة بالاستبداد- فإن تداعيات إصرار الدولة على نهج سياسة القمع والاعتقال السياسي الممنهج وتكميم الأفواه وانتهاك حقوق الإنسان وتلفيق التهم وإقامة محاكمات سياسية تغيب فيها معايير العدالة كافة وتوظيف القضاء سياسيا، ستكون نتائجها وخيمة، ولا أحد يمكن له أن يتكهن بالتطورات التي قد تطرأ في القادم من الأيام.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.