هل نغلق الجزيرة ؟

يجب أن ندين ما يجري حالياً ضدهم. هذه الحملة المغلفة بكثير من المسميات، والتي يراد منها الزجُّ بعدد من الصحفيين في ملاعب العلاقات السياسية المتشنجة "للإخوة" الأعداء، وتصفية الحسابات، ويهدد عدداً من الأرزاق والأعناق، وكذا قد يعرض بيوتاً للإغلاق، وأسراً للتشتت، عملية فاشلة ستنعكس على أصحابها، ولا شك سترجع القهقرى.

عربي بوست
تم النشر: 2017/07/23 الساعة 04:43 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/07/23 الساعة 04:43 بتوقيت غرينتش

لا يمكن لأي إعلامي منصف متوازن يمتلك رصيداً من الصدق ويوجد "إنسان" بداخله، إلا أن يتضامن مع الزملاء بقناة الجزيرة، وأن يستنكر التضييق على عملهم، وأداء واجبهم المهني والأخلاقي، وأن يشجب المحاولات المتوالية لِلَجم كل الأصوات التي تغرد خارج التهريج العربي الرسمي.

ومن منطلق الواجب والمبدأ، يجب أن ندين ما يجري حالياً ضدهم. هذه الحملة المغلفة بكثير من المسميات، والتي يراد منها الزجُّ بعدد من الصحفيين في ملاعب العلاقات السياسية المتشنجة "للإخوة" الأعداء، وتصفية الحسابات، ويهدد عدداً من الأرزاق والأعناق، وكذا قد يعرض بيوتاً للإغلاق، وأسراً للتشتت، عملية فاشلة ستنعكس على أصحابها، ولا شك سترجع القهقرى.

وإن القبول باستهداف وسائل إعلام، قد نختلف معها أو نتفق، غير تلك القنوات أو المنابر التي لا تستحق الذكر- يكرس لسياسة وأد الحريات وقمع التعبير، ويشيطن كل منبر لا يتماشى وهوى بعض الحكام والأنظمة العربية، وهو ما نعده جريمةً وجنايةً في حق القناة داخل منظومة حقوق الإنسان الدولية.

ومن الواضح أن قوة وتأثير أداء شبكة عربية صنعت لنفسها مكاناً وسط الجمهور، قد تصيب وتخطئ- أصابا قوماً بالذعر، وأخرجاهم عن جادة الصواب، حتى تركوا كل القضايا، وجعلوا إغلاق القناة على رأس العطايا والهدايا. وغير بعيد عنهم، إسرائيل تقتل وتأسر وتكسر دون حسيب أو رقيب.

شبكة قنوات الجزيرة، بكل موضوعية وبعيداً عن التحامل وبكل تجرد، كرست نفسها تجربةً ومدرسةً ومكاناً لتمرُّس العديد من الأعلام، ومن الأسماء التي حفرت اسمها في سماء الإعلام العربي، وصارت هدفاً يصبو إليه العديد من الجادين في مسارهم الاحترافي؛ بل تمكنت من أن تصير عنواناً عالمياً بالعربية والإنكليزية، ينافس باقتدار مع انتقادات هنا وهناك لا يخلو منها مكان ولا زمان.

ولا شك في أن هذه المكانة هي حصاد عمل صحفيين بالميدان الإخباري، من خلال المثابرة والاشتغال والتراكم، وتتابع العمل المسؤول والجدي في تناول القضايا العربية، تجمعوا من جنسيات مختلفة، تعددت معهم وجهات النظر وتنوعت طرق التناول، فاستطاعوا إماطة اللثام عن كثير من الخطوط الحمراء التي كانت حتى وقتٍ قريب في طي الكتمان والنسيان، محرومة من البث.

وترمزت العديد من الوجوه، التي أطلت بعد ذلك في العالم الافتراضي ووجدت نفسها وسط كمٍّ هائل من المحبة والتقدير والاحترام، بتفاعلها مع كثير من القضايا، على رأسها فلسطين الجريحة الكسيحة.

وظل الهم العربي والإنسان حاضراً في صلب معالجة كل المواضيع، وتنامى مد القناة مع ثورات العالم العربي التي انطلقت وهزت عروشاً وغيرت أنظمة استبدادية، ولربما من هذا الجزء الأخير من الحكاية، انطلقت المحنة، ومرت العاصفة، فعادت "السلطوية" لتنتقم، ولا بد لكل مساند معاند من أن يؤدي الثمن.

ومن البديهيات والمسلمات القول، خاصة لمن هم بالمجال ويعرفون خبايا الأمور وكواليسها، إن أي وسيلة إعلامية -مهما علا شأنها- لا بد لها من جهة تمولها، أكانت رسمية أو غير رسمية، حزبية، داخلية أو خارجية، تدخل ضمن استراتيجيتها او تشتغل لحسابها.

ولا نتحدث هنا عن قنوات أجنبية وضعت لها أجندات خارجية واضحة، لكنها تجد الاحترام عند قومنا، ينحنون لها ضعفاً؛ بل ويعبِّدون لها الطريق، أو لا ينتبهون للتسريبات السياحية وتفشي الرشى، الذي سمح في أكثر من فرصة وسرب فضائح وكوارث وجدت طريقها للبث الدولي، فرأينا الابتزاز والحصول على مقابلات وصفقات والضغط على أنظمة هشة.

ولهذا، لا نوقع شيكاً على بياض لـ"الجزيرة" أو غيرها، أو يكون هدفنا من هذه المقالة تنزيه الناس، أو غض الطرف عما يكتنف العمل البشري من هواجس ونواقص وما وراء الأكمة من صراعات، وما قد يكون مسطَّراً في أذهان صناع القناة وأهداف داعميها، ما دام الخبر والبث لا يمسان بالإنسان ولا يدعوان لعنف أو فوضى ولا يتجاوزان القانون.

بل نبحث وسط كل هذا المعمعان، للمواطن العربي المقموع عن مساحات حرية محترمة جادة تسعى وتكرس نفسها لخدمة قضاياه ونقل صوته بأمانة، وميزاننا للقياس والاقتباس في العمل الصحفي والأداء، معايير وضعها الناس وتعارفوا عليها في تصنيفهم وتقييمهم للمهنة، ولهذا الأمر معاهد تدرس، وتخصصات.

ليس الأمر دُمية كانت تُلهي فريقاً من الناس، وبرامج سهو ولهو وقبح وغباء وخواء لقتل الأجيال وصناعة الأنذال، كما هو حال قنوات ومنصات ومنتديات، أو مزاجاً لأمير أو وزير؛ بل ضوابط تحكي وتسأل: هل يلتزم الناس بنقل الحقيقة والتطرق إلى القضايا من جميع الزوايا؟ وهل يسعون جاهدين لكشف الخبايا وترصُّد كل الآراء بمهنية ومصداقية، بما تتحمله طاقتهم وخطوط التحرير المرسومة والإمكانات المرصودة لهم؟ وما مدى التزامهم بالموضوعية؟ وفي المقابل، هل تسمح الدول العربية بوجود قنوات من هذا الحجم في تناول قضايا المواطنين؟

وبعد أن تحدثني عن الضوابط، ضع كل هذا في موقعه من رقعة الأحداث، وانزل إلى أرض الواقع، وإلى عالم تحكمه موازين قوى وتضارب مصالح، وعلاقات، ورأسمال واستثمار، وأهداف، وافتح جدلية السياسي والإعلامي على مصراعيها، وكيف يسعى السياسي إلى أن يكون المنبر مُجيداً للتصفيق، بوقاً لحزبه، أو إنجازاته إن وجدت، وكيف يجب أن يغض الطرف عن الإخفاق، وقارن، وضع الصورة كاملةً أمامك بكل معطياتها في عالم مسلم "مخنوق" محاصَر ومستهدف يقصفه العدو ليل نهار.

وهناك من يلعب بمفهوم "الاستقلالية" المجنيّ عليه، ويريد أن يعزل الصحفي من شعبه وهموم وطنه، تحت اسم "الحياد"، وأن يحوله إلى تقني موظف، ينتظر مرتبه آخر الشهر، ويلجم فمه عن الكلام والاهتمام، يجمع المعلومة، ويبيع الأرقام، وينزل في فنادق خمس نجوم، ويكتفي بتلميع صورة فلان والتحول إلى بهلوان، ومحاورة زيد وعمرو، أو النبش في حياة الناس الخاصة مما تتقنه الأجهزة ويشكل هوايتها المفضلة.

وبعد كل هذا، تعالَ -سيدي- لترى كيف تعاني الأقلام الجادة بعدد من المنابر الوطنية في كل بلد، وكيف تجهد للوصول إلى المعلومة، وكيف تُمنع مواضيع من النشر، وتتحرك الهواتف والمتابعات والمحاكمات، وكيف يتم التطرق إلى قضايا الفساد، ولماذا تنعدم صحافة التحقيق؟

معاناة وسجون وتعذيب وتنكيل ووعيد وتهديد، وسجل حافل بالانتهاكات، هو رصيد الإعلام العربي اليوم تحت رزح أنظمتنا، مهما احتفت التقارير الرسمية بالعهد الغابر الزاهر، وبالمساحات المرسومة، وارفع عينيك إلى أميركا، وحدثني عن الإعلام الحقيقي وعن مساحات التناول، وتدافع الناس والتنافس في جو ديمقراطي إلى حد ما، هناك حيث جماعات الضغط والمراقبة الشديدة والمحاسبة والمساءلة عن كل كبيرة وصغيرة واليقظة الشعبية.

وقبل الختم، لا وجود لوسيلة إعلامية عربية دون أهداف، ودون تمويل وسند، وقد تجد الاستثناء حين تكون لإحداها رسالة وقيم ومبادئ تؤطرها في عالم "السوق"، أو بداخلها مساحات للتعبير، وبينها ووسطها وفيها أقلام ومواد تخدم السلطوية القابضة على الحكم العربي تشتغل مسخاً ونسخاً للبرامج الغربية القاتلة للذوق والحس والنفس الناشرة للميوعة والخلاعة، وأخرى تفتل في حبل التحرر والتطلع إلى الديمقراطية، وتذكي الغيرة الوطنية وانتقاد الأوضاع بشكل ينحو إلى ضرورة إصلاح أوضاع أقل ما يقال عنها الآن إنها كارثية.

ولإن كان من أحد له مصلحة في غلق قناة الجزيرة، فستكون السلطوية في عالمنا العربي أول الفرحين!

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد