إسرائيل الديمقراطية

صحيحٌ أنني لم أكن مُتصهينا يومها، ولكن يكفيني القول بأنني حصلت على 96 في امتحان المدنيّات في الثانوية، وذلك بفضل تأكيدي على سعة الديمقراطيّة الإسرائيلية في الامتحان، ومع أن العلامة ممتازة إلا أنني لم أفهم حجم الضلال الذي كُنت أعيشه إلا حين خرجت من هذه المدراس ودخلت مدرسة جديدة هي: "مدرسة الأقصى".

عربي بوست
تم النشر: 2017/07/23 الساعة 06:29 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/07/23 الساعة 06:29 بتوقيت غرينتش

لا يُمكنني أن أنسى أبدًا، كيف وقفت ذات يوم أقنع حارس عمارة سوداني في فندق في مكّة المكرّمة في عزّ انتفاضة الأقصى بأن "إسرائيل" دولة ديمقراطية، وقد صُدم الرجل منّي صدمة أظنه سيحدث أحفاده عنّي وعنها، فقد كان يُحدثني عن الاحتلال والشهداء، إلا أنني لم أكن أبالي حينها إلا بما تعلمته في "مدارس إسرائيل" بأن أكون فخورًا بأنني أعيش في ظلال الديمقراطيّة الوحيدة في الشرق الأوسط.. وكُنت أرد عليه بغباء: نحن يُمكننا أن نلعن الرئيس وأنتم لأ!

صحيحٌ أنني لم أكن مُتصهينا يومها، ولكن يكفيني القول بأنني حصلت على 96 في امتحان المدنيّات في الثانوية، وذلك بفضل تأكيدي على سعة الديمقراطيّة الإسرائيلية في الامتحان، ومع أن العلامة ممتازة إلا أنني لم أفهم حجم الضلال الذي كُنت أعيشه إلا حين خرجت من هذه المدراس ودخلت مدرسة جديدة هي: "مدرسة الأقصى".

في مدرسة الأقصى، لم يكن هناك أساتذة يُعلمونني عن "توماس هوبس" و"جون لوك" و"الديمقراطية" و"الحريّة".. و"البطيخ"، وكان يكفيني الخروج من قريتي الصغيرة إلى الأقصى لأكتشف أن الحياة والكون والديمقراطيّة أعظم من أن تنحصر في "لعن الرئيس" وبركات "التأمين الوطني" الذي يُمنون علينا به في كُل مناسبة "وطنية".

صدمتي الأولى كانت في يوم عشوائي قررت أن أذهب للأقصى، مع الحافلة التي كانت تخرج من قريتنا كُل أربعاء ضمن مشروع "البيارق" قبل أن يُمنع ويُصبح "خارجًا عن الديمقراطية"، والمهم أننا وجدنا الشرطة تقف عند باب العامود -عند حدود البلدة القديمة- وتُغلق البلدة القديمة أمام المُسلمين من الرجال تحت الخمسين عامًا، بينما اليهود يدخلون بحريّة، وفوق هذا كانوا يتكلمون معنا كما لو كُنا "حشرات" وبلكنة صهيونية لا تُنسى: "روخ من هون"!

مع أنني أجيد العبريّة، وكُنت أتخيّل أن الحوار قد ينفع في ظل "الديمقراطية" إلا أنني استسلمت في المواجهة الأولى، ولم تكن هذه وللأسف إلا البداية، فقد كثّفت من زياراتي لاحقًا، فوجدت المسألة تتكرر، فقد وجدتهم ذات يوم يطردونني عن البوابة لأنني كُنت أحمل كاميرا احترافيّة، ورُحت حينها أحاول إقناعهم أن الكاميرا لا تختلف عن كاميرات السياح في الداخل، فرفضوا تمامًا وقالوا بوضوح: "أنت لست مثلهم"، وكُنا قد تعلمنا في المدرسة أن هذا يُسمى "تمييزا ملحوظا" وأن في دولة إسرائيل الديمقراطيّة يُمكن أن نقدم شكوى ونحصل على كُل حقوقنا.. ولكن النظريّة شيء والتطبيق شيء آخر تمامًا، فقد هددتني الشرطة -حماة الديمقراطية- يومها بالمغادرة أو الاعتقال!

مع الوقت كانت الأمور تتطور، ولكنني لم أكن أنسى كتاب "أن نكون مواطنين في إسرائيل" فهو سميك جدًا، وفيه ندرس عن حريّة التعبير عن الرأي مثل "لعن الرئيس"، بيد أنني لم أتخيل أن أستاذنا الذي يُعلموننا عن الديمقراطيّة لا يُمكنهم التعبير بحريّة عن أرائهم في القضيّة الفلسطينية بحريّة، ولا أبالغ إن قُلت بأن أستاذ التاريخ في المرحلة الثانويّة قال لنا بوضوح: "فصل القضيّة الفلسطينية لن يأت في الامتحان.. ركزوا على سقوط الدولة العثمانية"، وهكذا تخرجنا ونحن لا ندري شيئًا عن قضيتنا بفضل "رعب الأستاذ" من خسارته لوظيفته رُبما، وليس غريبًا أبدًا في ظلال الديمقراطيّة أن تجد من حولك من يُحذرك وأنت تكتب عن القدس والأقصى: "دير بالك .. بكرة بحبسوك!".

هذه الدروس لم تكن سهلة، ولم أكن لأدرك حقيقتها لولا المسجد الأقصى، وهذه أعمق في النفس لأنها عن تجربّة وتجربة مريرة عادة، وفي تفاصيل دقيقة قد لا تخطر ببال من يتابع الأخبار لحظة بلحظة عن بُعد، فذات يوم استيقظت متأخرًا ولحقت الحافلة لصلاة الفجر في آخر لحظة، وبالطبع كُنت بلا وضوء، وما إن وصلت حتى وجدت المسجد مُغلقًا.. فأين الوضوء؟ رُحت أبحث وأبحث فلم أجد مكانًا للوضوء.. حتى ذهبت وطلبت الفتوى، فأجاز لنا أحد المشايخ بالتيمم!

الأكيد أن الأمور كانت تصل حدًا، يجعلك كافرًا بكل ما تعلّمته في مدارس إسرائيل، وذلك حين تجد نفسك تتظاهر بكل "ديمقراطية" و"سلميّة" كما تعلّمت في كُتبهم، فتجدهم يستفزونك مؤكدين لك بالقنابل الصوتيّة والرصاص المطاطي أنك كُنت تعيش في "فيلم هندي" لا بُد أن تستيقظ منه.. وتوقظ غيرك ممن ما زالوا في سُبات عميق! ولهؤلاء.. ليس عندي نصيحة إلا بتكثيف زيارة المسجد الأقصى.. فالدروس ستأتي مع الوقت!

– هذة التدوينة منشورة على موقع مدونات الجزيرة

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد