تبدت عبقرية الشيخ الترابي الفذة في بناء حركة إسلامية سودانية ذات استقلالية وطابع خاص، مهما يكن التنظيم الإسلامي في السودان قد اعتمد أوان تأسيسه على مكتوبات الإخوان المسلمين، مما يصل من مصر إلى السودان، ضمن عمليات التثقيف بالفكرة الإسلامية، لكن بغير رابطة تنظيمية تجمعهم بأصل التنظيم في مصر،
وهي ذات الفكرة التي انتهت إليها أخيراً الحركات الإسلامية في أقطارها المختلفة حين مضت تفك ارتباطها بالجماعة في مصر، سوى أن الحركة في السودان تنكبت الطريق المستقيم، حينما استعجلت الوصول إلى السلطة انقلاباً على الحكم الديمقراطي، وهو ذات التدبير الذي مزق الحركة نفسها قبل أن يضع البلاد جميعاً على حافة الفوضى بالقتالات الأهلية، والأزمات السياسية والاقتصادية، وصولاً إلى انفصال جنوب السودان.
وضع تزوير الانتخابات العامة على يد النظام في عام 2010 المؤتمر الشعبي في مسار طريف، ذلك أنه انخرط بثقله في العمل على إسقاط نظام الحكم.
في تلك الأثناء عبّر الشيخ الترابي عن توجهات جديدة طارت بها وكالات الأنباء العالمية؛ إذ قال: "نحن الآن أصبحنا قريبين جداً من اليسار، الحزب الشيوعي الآن أقرب حزب لنا، وهذا طبيعي؛ لأن فكرهم تطور، عموماً النزع الإسلامي فكره تطور والنزع الشيوعي فكره تطور، والتقوا على مبادئ.." لاحقاً بيّن المحبوب عبد السلام ذلك التطور؛ إذ يقول: "إن كلمة "يسار" في العالم تغيرت، اليسار تيمَّن واليمين تيسَّر،
كما حدث في الصين التي أضحت أقرب إلى اقتصاد السوق منها إلى الاقتصاد الاشتراكي، أو كما يحدث في حزب المحافظين ببريطانيا، ذلك أن البرنامج الذي يقوده حزب العمال الآن هو برنامج تاتشر، منذ غوردن براون وتوني بلير. العالم يشهد ارتباكاً فيما يتعلق بالتحولات من اليمين الى اليسار منذ السبعينات.."، بدت تلك كأنها لحظة الانفتاح والتحول إلى "ما بعد الحركة الإسلامية"، لا سيما أن الترابي كان قد بدأ يبشر بمشروعه الجديد "التنظيم الخالف"، وبينما شملت اتصالاته للتشاور في ذلك الشأن وجوهاً من قيادات التيارات اليسارية في السودان،
أعلن في أكثر من مناسبة أنه لن يكتب على ديباجته أنه تنظيم يحمل صفة إسلامي، كما أنه سيجانب قوالب التنظيم المتوارثة منذ حسن البنا التي تزاوج بين ظاهر وباطن ونشاط معلن، وآخر مستتر، بل إن الترابي عدّ تلك الممارسة نوعاً من النفاق يستوجب التوبة والاستغفار، لكن رفاق الشيخ الترابي في التنظيم ظلوا يهيمون بوادٍ آخر، غير ذي زرع، لكنه حافل بالتمييز والتصنيف والاستقطاب بين علماني وإسلامي، وقد ركنوا إلى الخمول الفكري، فاعتادوا أن يكونوا تبعاً لمفكر واحد وقائد واحد يغنيهم، ويحمل عنهم التكاليف.
حمل عام 2013 تطورات مهمة على صعيد العلاقة بين المؤتمر الشعبي وتحالف قوى الإجماع الوطني المعارض، الذي أبدى تأييده للانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس مرسي في مصر، وإذ اشتدت وطأة الثورة المضادة تلحق نكبات متتابعة بالربيع العربي، وتحدث انقسامات سياسية حادة بالمجتمعات في دوله، فقد احتدمت التباينات بين الشعبي وحلفائه في المعارضة حول مشروع الدستور الانتقالي الذي يضبط الفترة الانتقالية بعد إسقاط النظام، لكن ذهاب أحزاب اليسار السوداني لاختطاف الهبة الشعبية في سبتمبر/أيلول من ذات العام، ومحاولاتها عزل المؤتمر الشعبي عن وقائعها مثلت خاتمة المطاف في تلك العلاقة الملتبسة، وذللت الطريق الذي مضى فيه المؤتمر الشعبي نحو التلاقي مع النظام، والانخراط في مشروع الحوار الوطني.
وجدت جماعة من شباب المؤتمر الشعبي إقبال تنظيمهم على طاولة الحوار الوطني سانحة طيبة لإجراء مراجعات شاملة لا تنحصر داخل المؤتمر حصراً، وإنما تتجاوزه إلى تيار الحركة الإسلامية الأوسع تعرض له، تعريفاً وفكراً وخطاباً وسياسةً، أقدمت تلك المجموعة الشبابية، نحو منتصف سبتمبر/أيلول من عام 2014، على نشر ورقة حملت عنوان: "موقف المؤتمر الشعبي ومكبلات ومتطلبات الانتقال"، وإذ حملت الورقة مجموعة من القراءات والمراجعات، وعددت حزمةً من الممسكات التي تحول دون الإقلاع، فقد ذكرت أنها اختارت ذلك التوقيت؛ "لأن دعوة الحوار جاءت في خضم فراغ في مساحة المشروع الإصلاحي للمؤتمر الشعبي، وقد فشل مشروع الثورة الشعبية في أن يتحقق، كما فشل التعويل على الانتخابات العامة من قبل في إحداث إصلاح سياسي، كما فشل تحالف القوى الوطنية المعارضة في أن ينجز مشروعاً، أو يحظى حتى بثقة الشارع العام، فأصبح المؤتمر الشعبي ينتظر الأقدار والأحداث؛ لينجز شيئاً أو يدعو لإنجازه، فهذا الفشل والفراغ أوضح ضعفاً وخللاً قارّاً في بنية المؤتمر الشعبي لا بد من إجلائه، ومن هنا نريد استغلال هذه البارقة، لتقديم أطروحة تنقل المؤتمر الشعبي من حالة (الحزب السياسي)، المكتفي بالعمل السياسي اليومي الاستهلاكي النفعي، إلى أن يكون "حركة إسلامية" ذات مشروع فكري واجتماعي وسياسي حقيقي، وما نود الإشارة إليه هنا أننا لا نريد الآن طرح مشروع بديل نراه ملائماً وضرورياً، بقدر ما أننا نريد بسط بعض المكبلات وإزالتها، وعرض بعض من المتطلبات الواجب توافرها خدمة لأي انتقال، وتمهيداً لأي مشروع إصلاحي شامل للمستقبل..".
إذاً فقد تجاوبت طبقة القيادات في المؤتمر الشعبي مع حراك الشباب بعنف بالغٍ صداً عن سبيله وتشكيكاً في نواياه، وقد تولى كبر الحملة عليهم أحد القيادات الوافدة حديثاً إلى داخل الأمانة، فزعم زوراً وبهتاناً داخل اجتماع الأمانة العامة للمؤتمر أن أولئك الشباب يحملون أثراً من أفكار الفيلسوف الفرنسي "ميشال فوكو"، وأنهم يسعون إلى إنتاج صيغة توائم بين أفكار إسلامية وماركسية سوى تحفظات أخرى أبداها أفراد من ذات الطبقة اعترضت على استضافة شخصيات محسوبة على اليسار للحديث في منتديات المجموعة.
انتهت المعركة بطرد تلك المجموعة الشبابية ونفيها إلى خارج المؤتمر الشعبي، كما انقطعت منذئذٍ أي محاولات للتفكير في الإصلاح أو التغيير، واستتب الأمر من بعد لتيار المحافظة على القديم الذي تمثله ذات القيادات التي ترى في سالف سيرة الحركة الإسلامية مقدسات لا يجوز مقاربتها بالنقد.
مثلما أنعش مشروع الحوار الوطني أوهاماً عريضة لدى البعض في بعث وإحياء الحركة الإسلامية من جديد، تنظيماً يجمع أشتات الإسلاميين الذين مزقتهم الإنقاذ، وأذهبت ريحهم، فقد بعث أشواقاً دفينة لمعانقة مقاعد السلطة مرة أخرى لدى آخرين ظلوا يؤمنون على الدوام أن الدولة والسلطة هما الأداة التي يجب أن تعلو قاهرة على المجتمع، في تناقض كبير مع جوهر أفكار الشيخ الترابي حول المجتمع.
بينما يظل السؤال الأوضح قائماً ومطروحاً: هل تملك طبقة القيادات التالدة في المؤتمر الشعبي التي ارتدت للمشاركة في السلطة عزماً أكيداً أو أفقاً يمكنهم من استكشاف اتجاهات جديدة في عوالم الفكر والسياسة؛ ليتمكنوا من التصدي لتحديات المستقبل، وإنتاج رؤى وتصورات لمعالجة القضايا التي ظلت غائبة ومؤجلة لا يلتفتون إليها؛ إذ كانوا تحت ظل الشيخ المفكر في أحسن أحوالهم محض ناشطين في الشأن التنظيمي والسياسي اليومي لا يجاوزونه مدى؟!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.