فلسطين التي لا نعرفها.. بلاد أبي فُطرس

رحلتي الاستكشافيّة الأولى إلى بلاد أبي فطرس، كانت يوم "الغفران" اليهودي وهو يوم الصوم عندهم، الذي يُمنع فيه سير السيارات على الشوارع، وفي نفس هذا اليوم يخرج اليهود "العلمانيين" إلى الشوارع بالدراجات الهوائية لاستكشاف البلاد، ومع هؤلاء خرجت أنا وأحد الأصدقاء من قريتنا قاصدين يافا على بُعد 35 كم تقريًبا، وعند العودة قررنا أن نسير بمحاذة نهر "اليركون" كما يُسمى بالعبريّة ورُحنا نسير ونكتشف حدائقه الغناء التي قال فيها الدبّاغ في موسوعته «بلادنا فلسطين»: "إن منظر ضفاف نهر العوجاء من أبدع مناظر فلسطين، بما فيه من خضرة وجنان زاهرة ".

عربي بوست
تم النشر: 2017/07/02 الساعة 05:59 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/07/02 الساعة 05:59 بتوقيت غرينتش

صحيحٌ أن رحلتي إلى الأندلس أصابتني بشيء من الهوس، وأن اسطنبول ملكتني حتى رُحت أزورها المرّة تلو المرّة بلا كلل ولا ملل.. كما أنني تورطّت في عشق القدس وحجارتها منذ زمن إلا أن هذه كلها وبالإضافة إلى رحلاتي الأبعد كرحلاتي في بلاد الجِرمان أو حتى السويد لم تكن أعظم الرحلات ولا حتى أبدعها، بل على العكس تمامًا فإن أعجب رحلة قُمت بها في حياتي كانت إلى أقرب البقاع من قريتي، كيف لا وأنا لم أكن أعرف عنها إلا أقل القليل ورحت استكشفها بشغف شديد ثم سميّتها "بلاد" ابي فُطرس.

لطالما كُنت مُغترًا برحلتي إلى الأندلس وما رأيتُ فيها، حتى وجدت نفسي ذات يوم وأنا أستمع لأحاديث زميل عمل "صهيوني" يتحدّث عن مُغامرته في الجيش وعن رحلة "الصعود إلى القدس" مشيًا على الأقدام لأيام من معسكرهم، ثم وجدت آخرًا من أصول روسيّة يتحدث عن رحلاته بالدراجة الهوائية في جبال "إسرائيل" البديعة، وبالقرب من مقهى الشركة – حيث كُنت أعمل – كانت مكتبة فيها عدد لا بأس به من المجلات والكُتب عن "بركات" التجول في البلاد، وقد وجدت بينها يومها كتاب لا أنساه وكان يتحدث عن رحلات قام بها الكتابة إلى أجمل الأشجار في "أرض إسرائيل" فيشرح كيف وصلها وما حكايتها وغير ذلك من تفاصيل مُلهمة، وللحق فقد كانت هناك كُتب أخرى تؤكد لي أننا كثيرًا ما نتغنى بحُب فلسطين في المقالات والمؤتمرات ونحن أبعد ما نكون عن حُب الأرض والتواصل الحقيقي معها باستكشافها والتجوال فيها، ولا أقصد هنا الرحلات الجاهزة ورحلات "التشيك إن" فهذه كثيرة ولكنني أقصد شيء آخر تمامًا!

رحلتي الاستكشافيّة الأولى إلى بلاد أبي فطرس، كانت يوم "الغفران" اليهودي وهو يوم الصوم عندهم، الذي يُمنع فيه سير السيارات على الشوارع، وفي نفس هذا اليوم يخرج اليهود "العلمانيين" إلى الشوارع بالدراجات الهوائية لاستكشاف البلاد، ومع هؤلاء خرجت أنا وأحد الأصدقاء من قريتنا قاصدين يافا على بُعد 35 كم تقريًبا، وعند العودة قررنا أن نسير بمحاذة نهر "اليركون" كما يُسمى بالعبريّة ورُحنا نسير ونكتشف حدائقه الغناء التي قال فيها الدبّاغ في موسوعته "بلادنا فلسطين": "إن منظر ضفاف نهر العوجاء من أبدع مناظر فلسطين، بما فيه من خضرة وجنان زاهرة ".

عُدت من تلك الرحلة وكُلي انبهار بما رأيت، ورُحت أبحث وأفتّش في الكُتب عن القرى الفلسطينيّة التي كانت في تلك البقاع البديعة، حيث لم يكن على طول الطريق (30 كم) إلا بقايا لبضعة منازل فلسطينية مهجورة، كما لم نرَ في الطريق إلا اليهود، أما العربي الوحيد الذي رأيناه كان عاملًا من الضفّة الغربيّة يعمل في مدينة "بيتاح تكفا" واستغل يوم العطلة لاستكشاف بلاده، وهذا الحال مُختلفٌ كُل الاختلاف عمّا كانت عليه هذه البلاد قبل عام 1948، فقد كانت عامرة وكان فيها أكثر من عشرة قرى فلسطينية دُمرت وهُجّر أهلها، كالشيخ مونس وعرب أبو كشك وعرب السوالمة وعرب الجرامنة والمحموديّة وكذلك جريشة وصُمّيل وغيرها من الأسماء التي لم أكن أعرف عنها أي شيء تقريبًا قبل هذه الرحلة التي فضحت جهلي وجعلتي أبحث بشغف شديد!

كُنت كلما ازددتُ بحثًا، ازددتُ رغبة في الاكتشاف أكثر، ولم أصبر طويًلا حتى قررت أن أحمل نفسي مع بعض الأصدقاء لنقصد يافا مشيًا على الأقدام لنعيش هذه البقعة من بلادنا بكُل تفاصيلها وحكاياتها التي تغيب عن رُكاب السيّارات السريعة، كتلك البركة البديعة التي تُسمى "بركة النيوفلر" بين قريتي المحمودية وعرب المويلح وهي قرى لم تعد تُذكر اليوم كما لم يتبق منها إلا بيتين من الحجر الفلسطيني الفاخر وبيت آخر قرب النهر مُظلل بشجرة كينا باسقة، ولكنه مُتهالك ولن يراه الجيل القادم غالبًا، وليس أعجب من هذه البيوت إلا اكتشافنا "القرية المعمدانية" وهي قرية مسيحيّة صهيونية صغيرة جدًا ومركزًا مهمًا من مراكز الطائفة المعمدانية ويأتيها الناس من حول العالم ولا تبعد عن قريتنا إلا أقل القليل ولكنني لم أسمع بها من قبل قط، وهذه المشاهد كلها من بداية المسار فقط!

حتى تسميّة أبي فطرس لم تكن معلومة عندي ولا عند أكثر أهل قريتي والمنطقة، فأكثرهم يعرفون النهر باسمه العبري "اليركون" وهي التسمية المستخدمة في الكتب المدرسيّة ودرس اللغة العربية وهناك تسمية "العوجاء" أو "العوجا" التي يعرفها كبار السن غالبًا فهي التسمية الشعبية لهذا النهر، أما "أبي فطرس" أو "فطرس" فإن البعض ظنّها اختراعًا من عندي يوم بدأت استخدامها ولكنها ليست كذلك بل تعود إلى أيام الرومان في فلسطين حيث قام هيرودوس ببناء مدينة "أنتيباترس" تخليدًا لذكرى أبيه، ومع خروج الرومان قام أجدادنا العرب بتحريف اسم "انتيباترس" إلى "أبي فطرس"، كما أن هذه التسميّة اشتهرت بعد أن لجأ الأمويين إليه في محنتهم مع العباسيين ووقوع المجزرة على ضفافه، أما أنا فقد أحببت التسميّة لأنها تليق بجهلنا ببلادنا فلسطين!

وتكملة بقيّة المسار في جزء آخر.. إن شاء الله

– التدوينة الأصلية نشرت على مدونات الجزيرة

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد