لا يشكُّ أحدٌ في أن مسلسل التردي العربي مازال متواصلاً.. بل يبدو أن الجب بلا قعر..
ذات صباح.. ودون مقدمات، وبشكل مفاجئ.. تعلن ثلاث دول خليجية فرض حصار بري وجوي وبحري على دولة جارة..
ولأن العرب يجهلون فوق جهل "الجاهلينا" كما قال شاعرهم.. فقد فشل حتى أكثر الخبراء المختصين في كواليس هذه المنطقة، في ملاحقة تطور الأحداث.. خاصة وأن طبول الحرب كانت تقرع بقوة.. بل إن هناك من بدأ في الحديث عن "بنك الأهداف" في قطر.. والذي يفترض أن يستهدفه طيران الإمارات الحربي..
من ميزات العرب عبر التاريخ، أنه لا أحد يستطيع أن يتنبأ أو يتوقع ما بإمكانهم فعله، ولا طبيعة ردود أفعالهم التي عادة ما تكون غير متناسبة مع الفعل..
غير أن هذا لا يمنع من الوقوف عند مجموعة من الدروس والعبر التي لا ينبغي القفز عليها..
هناك بداية، الإعلان عن نهاية مصر كقوة إقليمية، وهي نتيجة منطقية لما جرى منذ انقلاب يوليو، حيث فقدت هذه "الدولة" استقلال قرارها الداخلي كما الخارجي، وأصبحت مجرد تابع مهمته التنفيذ، وتقاضي الأجر.. وآخر تجليات ذلك حكاية الجزيرتين والطريقة التي تم اعتمادها في التخلي عنهما..
وهناك ثانياً، اختبار حقيقي لما تم الترويج له عن "زعامة" سعودية لمحور عربي/سني لمواجهة المحور الإيراني، حيث يتضح من لائحة الدول التي ساندت قرار المقاطعة، أنه باستثناء بعض الدول الهامشية التي لا وزن لها، فإن السعودية لا تأثير لها على صناعة القرار حتى في كثير من الدول القريبة منها والموالية لها، والتي فضلت اللجوء إلى إجراءات دبلوماسية أقل من قطع العلاقات كأقصى سقف لـ"المجاملة".. رغم الضغوط التي تعرضت لها، وفق ما تداولته الصحف الدولية.
وهناك ثالثاً، وعطفاً على ما سبق، تأكيد على حقيقة يبدو أنها تغيب عن صناع القرار في المنطقة، تتمثل في أن الأرض تدور، وليست ثابتة، عكس ما يقوله عباقرة الوهابية والسلفية.
ولأنها تدور، فمن المنطقي أن كل ما ومن عليها يتحرك.. فالشعوب الإفريقية مثلاً التي كانت غارقة في الحروب الأهلية وفي الانقلابات، أصبحت اليوم تطالب بحقها في الحرية والديمقراطية، وأصبحت حكوماتها تحسب ألف حساب لسلطة الرأي العام..
لم يعد الرئيس الإفريقي يبيع ويشتري ويبرم الصفقات السرية مع الحكومات والشركات العابرة للقارات.. بل أصبح خاضعاً لامتحان صناديق الاقتراع..
لم يفهم صناع القرار في الخليج هذه الحقيقية، وحولوا مصر إلى "أصل" يمكن القياس عليه.. والحال أن إفريقيا تغيرت أكثر مما يظن كثيرون..
وهناك رابعاً، إعادة اكتشاف حقيقة غائبة ومغيبة، تتمثل في أن الثورة المعلوماتية التي عرفها العالم في العقدين الأخيرين، أعادت فعلاً كل العدادات إلى الصفر، وتساوت جميع الدول أمام هذا الموعد العالمي، الذي منح الجميع فرصة لانطلاقة جديدة..
وحدهم العرب نجحوا كالعادة في إخلاف هذا الموعد، لأنهم فضلوا الاستمرار في الرهان على "التطاول في البنيان"، بدل بناء الإنسان.. والنتيجة: العقوبات المغلظة التي سلطت على رقاب كل من "يغرد" خارج السرب..
وهناك خامساً، كلمة حق ينبغي أن تقال.. ذلك أن الإعلام أصبح فعلاً أخطر سلاح في القرن الذي نحن فيه، وربما في الألفية الثالثة أيضاً..
أن تكون قناة "الجزيرة" عنواناً للأزمة الخليجية، رغم أنها لا توجه مدفعيتها الثقيلة لدول الخليج، فهذا معناه أن تأثير الإعلام في إيقاظ الوعي، وفي إفساد المخططات، أصبح مدمراً فعلاً.. والدليل على ذلك أن قطر، الدويلة الصغيرة المحدودة جغرافياً أصبح لها إشعاع عالمي مشهود.. خاصة في ظل فشل الشبكات المنافسة، التي كانت بعضها بمثابة "غلاف" جديد لتلفزيونات الدولة والنظام، وبعضها الآخر تحول إلى مواخير تظن أن نشر الانحلال والانحراف وتسويق الشهرة الزائفة، يمكن أن يعيد الوضع إلى ما كان عليه قبل عصر الفضائيات..
إن الدليل على الدور الذي لعبته الجزيرة، يتمثل في إقدام أميركا وروسيا والصين على إطلاق قنوات ناطقة بالعربية.. بل حتى بريطانيا التي باعت لقطر "البي بي سي العربية"، عادت لإحيائها من جديد.. وأكثر من ذلك، فإن فرنسا الحساسة جداً للغتها، فتحت منصة عربية.. لمخاطبة الشارع العربي..
وهناك سادساً، تأكيد جديد على الارتجالية التي تدار بها السياسات الخارجية لكثير من دول المنطقة.
فمن العبث الاعتقاد بأن الأمور ستعود لمجاريها لاحقاً، لأن الحقائق التي تقررت على الأرض، سيكون من الصعب جداً تغييرها باحتساء فناجين القهوة المرة، والمشاركة في رقصات العرضة..
لقد فتحت الأزمة الأخيرة نافذة تسللت منها إيران وتركيا إلى العمق الخليجي، وهما لاعبان إقليميان لهما مصالحهما المعلنة والخفية..
فهل تشكر الدولتان "أبا جهل" الخليجي الذي سهل مأموريتهما إلى أقصى حد؟
ومن يستطيع اليوم أن يراهن على أن قطر ستهدم الجسور التي بنتها مع إيران خلال هذه الأيام، فقط لأن العلاقات عادت مع السعودية والإمارات إلى "طبيعتها" في انتظار الأزمة التالية؟..
وهناك سابعاً، ملاحظة تفرض نفسها إزاء الارتجال والتخبط الذي ظهر على الدول المقاطعة، حيث بدا مسؤولوها في أكثر من مرة، كمن يبحث عن مبررات لاحقة لقرار الحصار، والحال أن معارك من هذا النوع، يفترض أن تطبخ على نار هادئة، وأن تدرس من جميع جوانبها، وأن تشارك في التخطيط لها عقول وخبرات ومستشارون ومختصون في كثير من المجالات..
لقد بدا واضحاً في أكثر من لحظة، أن الدول الثلاث عاجزة عن تسويق موقفها، بل إن وزير الخارجية السعودي بدا وحيداً في كثير من المحافل، وعاجزاً تماماً عن إقناع مخاطبيه الأوروبيين.. ربما لأن القرار اتخذ وفق عقلية "كليب بن ربيعة"، القائمة على ارتكاب الحماقة أولاً ثم البحث عن تبرير لها تالياً.. وهو ما اتضح جلياً، حين بدأت الانتقادات تتقاطر بسبب خرق كثير من القوانين الدولية المتعلقة مثلاً بالنقل الجوي..
وهناك ثامناً، متغير لابد من أخذه بعين الاعتبار، يتمثل في أن الدول الخليجية التي تتبارى في بناء ناطحات السحاب والأسواق والملاهي وما لا يخطر على البال، لم تستثمر في الفكر، من خلال إنشاء مراكز بحثية ومعاهد للدراسات، تستقطب لها كبار المفكرين الاستراتيجيين، الذين يمكن الاعتماد عليهم في اللحظات المفصلية..
صحيح أن هذه الدول تمول العشرات من "الهيئات" الفكرية، لكنها في الواقع أقرب لنواد للشعراء المداحين منها إلى مؤسسات لإنتاج الفكر.. تنتج ما يرضي الممول، وتزين له الطريق، يسير فيه حتى لو كانت نهايته الهاوية السحيقة..
وهناك تاسعاً، حرص على الأساليب القديمة.. وقد تجلى ذلك من خلال الرهان على مئات المليارات التي دفعت للرئيس الأميركي، والتي ظن البعض أنها كافية لتحويل السيد ترامب إلى موظف في البلاطات الخليجية..
سيذكر التاريخ أن أغلى تغريدات على تويتر كانت من تدبيج ترامب، حيث إنها كانت أقصى ما قدمه للسعودية مقابل ملياراتها خلال أزمتها مع قطر..
لقد غاب عن المقاطعين، أنه في أميركا، يمكن أن يكون الرئيس مجنوناً لكن الإدارة تظل عاقلة.. ولا يمكنها أن تنساق وراء مغامرات جساس وكليب والمهلهل.. حتى بسبب الحسناء إيفانكا فأحرى بسبب ناقة البسوس..
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.