الدولة لا تريد أن تتراجع، ويبدو أن النظام ليس مستعداً بعدُ ليحقق مطالب المحتجين في الريف؛ بل من المبين في الخطوات والتدابير التي يتخذها بين الفينة والأخرى أنه غير مبالٍ أساساً بالأمر ولا بعواقب وتكلفة تأخير علاج الأزمة، و كل المؤشرات للأسف توحي بأنه لا ينوي حتى القيام بالأمر في المستقبل القريب، بما يعني أننا فعلاً وإذا ما أصر كل طرف على تعنُّته، فعلى وشك الدخول في مرحلة من الاصطدام أعنف بكثير مما هو عليه الأمر حالياً.
تعنُّت وعناد النظام في الاستجابة للمطالب، مردُّه بالأساس إلى أن هناك مغالطة كبيرة وفكرة سلبية رائجة داخل دوائر صنع القرار في الدولة، فكرة مفادها أن أي خطوة لتحقيق مطالب المحتجين أو تراجع عن الخطوات والتدابير التي اتخذها ضد المحتجين (تصحيحاً للأخطاء المرتكبة في التعامل مع الملف)، فذلك يعني بالضرورة أنه يضرب هيبة وكبرياء الدولة في العمق، أو أن من شأن قرار كهذا أن ينقص من مكانتها و يضعف من قوتها، وللأسف هي المغالطة نفسها التي تروج لها مختلف الأقلام في المؤسسات الصحفية والإعلامية الرسمية أو التابعة للسلطة.
صحيح أن مثل هذه الأفكار السلبية ليست وليدة الأزمة الحالية، كما أنها لا تقتصر فقط على النظام الذي يحكم هذا البلد؛ ذلك أن الأمر غالباً ما يكون من السمات التي ترتبط بشكل وثيق بأي دولة هشة وغير ديمقراطية، حيث في الغالب ما يتم على أساسها تبرير عمليات القمع والتسلط الذي يمارَس على الشعب، لكن الصحيح أيضاً أن هناك قدراً أدنى من التعقل يملي على من يحكمون البلد التفكير في عواقب الأمور؛ إذ من الغباء أن يتم المجازفة باستقرار الوطن وأمن المواطنين فيه لمجرد فكرة مغلوطة وغير سوية وغير عقلانية أصلاً.
فلا يجادل اثنان في كون هيبة الدولة مسألة ضرورية وحيوية ومن الأشياء الأساسية لأي مجتمع، وبذلك فلا يُقبل التهاون حولها ويجب ألا يكون الأمر موضع نقاش أو مزايدة من أحد، لكننا نعتقد كذلك أن الدولة التي تبني "هيبتها المفترضة" بزرع الخوف وبث الرعب في الناس وترويع المواطنين ليست دولة في حقيقتها، لكن مع كامل الاحترام فهي أقرب إلى تشكيل تنظيم العصابات وشبكات الإجرام، فهي وحدها من تعتمد الأسلوب ذاته.
فالدولة تعرف أنها مخطئة، ومع ذلك تتمادى في الخطأ وتزيد من تصعيد الأمور و"قلي السم" للمحتجين وأهاليهم وحتى مع من يتعاطف معهم، وتتمادى في مواجهة المظاهرات السلمية بالقمع العنيف، ومع توسيع لحملة الاعتقالات التي غالباً ما تتم بشكل عشوائي، والأحكام التي يوزعها القضاء الموجه وغير النزيه على المحتجين من خلال إلصاق أي تهمة حسب بروفايل كل معتقل، وغيرها من مختلف الإجراءات والسلوكات القمعية.
فأي هيبة هذه؟! وأي عقل هذا الذي يربط هذه الهيبة والكبرياء المزعوم مع تلك الأعمال والسلوكات التي تُمرّغ فيها كرامة المواطنين في التراب؟! وأي هيبة تلك التي بسببها تُلصق التهم والأحكام كشربة الماء بشباب وشابات، ذنبهم فقط أنهم طالبوا بأن يكونوا "مواطنين حقيقيين"؟!
حقيقةً لا ندري هل كانت الدولة هي من تخوض معركتها الخطأ حينما قررت أن تربط من الأساس بين تحقيق مطالب وحقوق أساسية وضرورية لعيش كريم لفئة ضمن نطاق جغرافي محدد، بهيبتها وقيمتها (مع أن جل المناطق تعاني تقريباً المشاكل نفسها)؛ ما يعني في ذلك أنها أخطأت العنوان من الأصل، أم أننا نحن الحالمون بشكل مبالغ فيه عندما نعمل على مقارنة الطريقة التي يعامَل بها المواطنون في بلدان أخرى من قِبل أنظمة دولهم ونسعى بذلك إلى أن نكون مثلهم ونترجى من نظامنا الحذو حذوهم.
إنه إذا ما كان تفسير لهذا الأمر كله، فهو أن النظام الذي يحكمنا لا يزال لم يفهم بعدُ معنى أن تكون حاكماً في دولة عصرية، بدل أن تكون سلطاناً على رعايا أو شيخاً لقبيلة على قوم، فالفهم المغلوط للشكل والطبيعة التي يجب أن تكون عليها العلاقة بين المواطن ودولته أو من الساسة الذين يمثلون الشعب داخل مؤسساتها، هي كلها أمور جعلتنا اليوم نعيش كل هذه الأزمات والمشاكل.
ومن ثم، نعيش معه مأزقاً في السلطة وفي تحديد ذلك الشكل والحدود في العلاقة بينهما، وأن من مترتبات الأمر أننا نعيش عطباً دائماً في تصريف أمور الحكم وتدبير شؤون البلد بشكل سلس وسليم، وبذلك لا يمكن أن يستقيم الأمر إلا بوجود إطار وقواعد محددة بشكل واضح تُبرز حدود وأدوار كل طرف.
إذ وكما في أي بلد من بلدان العالم الديمقراطي، من المفترض أن يوجد ميثاق يحدد طبيعة وشكل وحدود العلاقة بين المواطن من جهة والمسؤول أو المؤسسة التي يمثلها من جهة أخرى.
ففي العادة وفي مثل هذه الدول، يكون هذا الميثاق محدداً بشكل دقيق، ويكون بقواعد واضحة وسليمة، قواعد لا تقبل التأويل حسب نزوات شخصية لحاكم أو مسؤول، ولا لحالات ظرفية أو خاصة بأي منهما، وحتى لو كان ووقع هناك لبس أو سوء فهم في التأويل أو التفسير فغالباً ما يكون الميل إلى مصلحة المواطن بالدرجة الأولى، حيث يُعتبر هو الأساس والمركز، والذي لمصلحته تعمل الدولة ومؤسساتها.
ففي مثل هذه النماذج بأنظمة الحكم، غالباً ما تكون هناك ثقة -شبه تامة- بين المواطن ودولته، وغالباً ما يكون ذلك المواطن أحرص حتى من ذلك المسؤول نفسه على احترام تلك الدولة ورموزها وتقديرهما بشكل شديد، وهو حتى ما ينمّي بشكل آلي شعوراً تلقائياً بالمبادئ والأفكار الوطنية وحب البلاد دون حاجة لا لأغنية في قناة رسمية، ولا لخطاب الحاكم أو المسؤول، ولا لمقررات دراسية، ولا لأي بروباغندا أو شحن عاطفي أو أي شيء آخر من هذا القبيل.
فموقف المواطن وقراره حول الأمر يتخذهما فقط بناءً على احترام ذلك النظام لشخصه وكينونته، وانطلاقاً من مدى إشعاره بأهميته القصوى من قِبل مسؤولي بلده ومؤسساتها؛ ومن ثم فغالباً ما يتم مبادلة ذلك الاحترام والتقدير بما هو أحسن منه؛ لذلك كثيراً ما نجد أشد وأشرس من يدافع عن تلك البلاد وأحرص من يسوّق صورتها هم مواطنوها بالدرجة الأولى؛ وذلك ببساطة لأنهم يشعرون بأنهم جزء منها وهي جزء منهم.
أما عندنا بالطبع، فلا يحتاج الأمر إلى مقارنة ما دام أنه لا قياس مع الفارق، كما أن مشكلتنا أكثر تعقيداً من مجرد ميثاق أو إطار محدد لطبيعة العلاقة (حيث من الممكن أن يوجد ذلك الإطار، لكن لا توجد العقلية التي تحترمه أو التربة السليمة التي تحتضنه). فمشكلنا هو مشكل بنيوي للأسف؛ إذ إنه ليس رهيناً بأزمة اجتماعية أو سياسية عابرة فقط.
لكن الشيء الأساسي على الأقل للبدء في تأسيس علاقة تشوبها ثقة بين المواطن والدولة، هو أن على الساسة في البلد أن يفهموا جيداً أن الدولة الحقيقية هي التي تبني هيبتها على حب الشعب والمواطن واحترامه له ولـ"مواطنيته"، فكرامة وهيبة المواطن من كرامة الدولة وهيبتها والعكس صحيح، ولا يمكن للاثنين أن يفترقا.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.