تعيش منطقة الخليج هذه الأيام على وقع أسوأ أزمة سياسية بينية منذ سنوات، فمنذ قرار السعودية والإمارات والبحرين ومعها مصر من جانب قطع علاقاتها مع قطر صاحبين ذلك بفرض حصار جوي وبحري وبري خانق، مع حملة إعلامية هوجاء مستهدفة النظام القطري بشكل مباشر ومحرضة ضده، والكل يضع يده على قلبه تخوفاً من الأسوأ، وهو ما جعل الأوضاع تنذر بتصعيد أكبر في ظل عدم استعداد أي طرف للتراجع عن مواقفه؛ لتكون بذلك آخر القلاع الهادئة نسبياً في نطاق جغرافي يعيش على نار ملتهبة قاب قوسين أو أدنى من الدخول هو الآخر في أتون حروب وصراعات بلا نهاية أسوة بتلك التي شبت ببلدان الجوار.
ماذا وراء الموقف الرسمي المغربي؟
في شكله المعلن فقد اتخذ المغرب موقفاً من الأزمة يمكن اعتباره نوعاً من الحياد الإيجابي، وتمثل بالخصوص في الإبقاء على مسافة واحدة بين الفرقاء مع عرض للوساطة لحل المشكلة، وتفادي كل ما من شأنه أن يثير هذا الطرف أو ذاك.
لكن العارف بعمق مثل هذه الأزمات سيجد أن موقف الحياد نفسه ليس حياداً، أو على الأقل هكذا يفهم من قِبل هذه الأطراف، فمن يلاحظ مثلاً تعامل العربية السعودية مع الأزمة سيجد أن منطقها هو "إما معي أو ضدي"، وهو ما يجعل من بيان الخارجية المغربية في نظر الإمارات والسعودية ضدهما وداعماً للطرف الآخر بالضرورة، مع أنه للأمانة كان بياناً متوازناً إلى أبعد الحدود.
لكن قرار المغرب في خطوة مفاجئة إرسال طائرات محملة بالمساعدات الغذائية لقطر وفي هذا الوقت بالذات فهو يطرح أكثر من علامة استفهام كبيرة، فمهما تكن مبررات الدولة المغربية كما جاء في بيانها الرسمي حول الأمر، والذي عزت فيه الخطوة إلى ما اعتبرته "تماشياً مع تعاليم الدين الإسلامي الحنيف وما يستوجبه، خاصة خلال شهر رمضان الكريم، من تكافل وتآزر وتضامن بين الشعوب الإسلامية"، فإن المرء لا يحتاج إلى ذكاء كبير ليخلص إلى أن هناك شيئاً في الكواليس على غير ما يرام جعل الرباط تتخذ هذه الخطوة التي تعتبر رسالة لمن يهمهم الأمر.
ففي هذه المرحلة الحساسة من الأزمة بالذات تكون كل الخطوات محسومة ومدروسة بعناية ومن المؤكد أنه لا شيء يتم عبثاً، ولو أضفنا هذه الخطوة الخاصة بالمساعدات مع ما قامت به إذاعة "ميدي 1 " يوم السبت الماضي من خلال بث تقرير يتهم دولة الإمارات بدعم قوات حفتر وانتهاك حظر تصدير الأسلحة إلى ليبيا. وقام الراديو التابع للقناة التي يرأسها حسن خيار، ببث تحليل حول الإمارات وكل المواضيع الاقتصادية والسياسية بطريقة هجومية، بالرغم من كونها تربطها علاقات جيدة ووطيدة مع المغرب والأسرة الملكية، فهذا يجعلنا نطرح تساؤلات عديدة مرتبطة بآليات وحدود العلاقة بين المغرب ودول الخليج.
فما هي الضوابط التي تحدد علاقة الطرفين إذاً؟ وهل علاقة المغرب بالخليج هي علاقة استراتيجية وتحالف أبدي كما يروج له، أم أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد علاقة مصلحة مقرونة بهدف أو بغاية معينة وتنتهي بانتهائها؟
المغرب والخليج كلاهما يحتاج إلى الآخر وربما بالدرجة نفسها من الأهمية، وإن تغيرت الأسباب والدواعي واختلفت الأولويات والقضايا في ذلك.
فالمغرب بلد بعيد نسبياً عن الاحتقان الطائفي وبالتالي هو بمنأى من الصراع وتدخله سيكون من باب -دعم ودعم مقابل- وبالتالي فالقضية للرباط عملية حسابية لا أقل ولا أكثر، وهذا ما يجعل لحد الآن النظام السياسي في المغرب ينتهج سياسة براغماتية، هو ناجح في ذلك إلى أبعد حد.
لكن ذلك لا يعني أنه في حاجة ماسة للخليج، فالمغرب هو الآخر يعيش مشاكل وإن كانت من نوع آخر، فالحراك في الريف أصبح مثل بقعة الزيت التي تتسع رقعتها يوماً بعد يوم، مما يعني أن الحاجة للحلفاء الخليجيين أمست ضرورة ملحة للنظام إذا ما أراد شراء السلم الاجتماعي بالبلد وما يتطلبه من تكاليف مالية لا قِبل لميزانية الدولة بها.
واقعية الرباط في العلاقة مع الخليج:
النظام السياسي في المغرب ينتهج سياسة براغماتية محضة، وهو ناجح في ذلك إلى أبعد حد، فلا هو أقفل كل الطرق التي من الممكن أن تجعل لهذه الدولة موطئ قدم في صناعة القرار السياسي بالمغرب كما في بعض الدول التي تعرف قلاقل سياسية واجتماعية (مصر، الأردن..)، لكن على الأقل في الإطار الذي يحدده هو لها..، ولا هو منح شيكاً على بياض يمكن أن يجعل هذه الدول تملي وتسن عليه ما تشاء كيف تشاء، وبالتالي تقويض كل ما بناه من توازنات اجتماعية وسياسية أنجته من الموجة التي ضربت المنطقة والتي لا يزال تهديدها قائماً.
ولا أدل على أن الرباط دائماً ما تتعامل بمنطق "المصلحة اللحظية" فقط أنه رغم التحالف الوثيق بين المغرب مع دول الخليج ورغم المشاركة المغربية في حرب اليمن مثلاً، فإن ذلك لم يمنع القناة التلفزيونية الرسمية في إحدى المرات من بث تقرير إخباري في نشرتها الرئيسية وصفت الحرب على اليمن بـ"العدوان السعودي"، وقامت بتغطية مظاهرات ضد السعودية مع ظهور عبارات مسيئة للعائلة المالكة وللبلد، وهو أمر لم يكن خطأ مهنياً كما تم الترويج له آنذاك، لكن الحادثة طرحت آنذاك أكثر من علامة استفهام حول المنطق الذي يحكم العلاقة بين الطرفين.
وإن كان من خلال التسريبات التي كشف عنها أكثر من مصدر بعد ذلك، أن رد فعل الرباط -العنيف- آنذاك مرده بالأساس غضب الرباط من تملص السعودية من وعودها في منح مساعدات مالية واقتصادية إلى المغرب ضمن المنحة التي وعدت بها هذه الدول تقديمها للبلد.
وإن كانت كذلك مصادر أخرى ترى أن ذلك مرده الاستياء الكبير جداً من التعامل السعودي مع قضية الطيار المغربي الذي سقطت طائرته في الأجواء اليمنية، حيث تعاملت السعودية ببرود مع الأمر، ورفضت أي تفاوض مع الحوثيين لاستعادة جثته، فكان كذلك رد الرباط الذي لم يسبق له مثيل.
صحيح أن الأمور عادت إلى طبيعتها، وعاد التعاون إلى ما كان عليه، إلا أن ذلك يوحي لنا بالعقلية البراغماتية التي تتعامل معها الرباط مع دول الخليج، فالأمر بشكل أو بآخر هو علاقة "مصلحة "وفقط ومرتبط بتقديم المساعدة العسكرية والأمنية للمغرب مقابل الحصول على مساعدات مالية واقتصادية وليست علاقة "تبعية"، كما يبدو عليه الأمر.
وهذا ما جعل من الراجح جداً أن حتى التقرير الذي بثثته قناة "ميدي 1" السبت الماضي حول اتهام الأمم المتحدة لدولة الإمارات العربية المتحدة بانتهاك حظر تصدير الأسلحة إلى ليبيا ودعم قوات حفتر، والذي شكل مفاجأة للعديد من المتتبعين؛ حيث قامت الإذاعة ببث الخبر بالتحليل طيلة نشراتها مؤخراً، على غير عادتها في تناول الأخبار المتعلقة بدولة الإمارات التي تجمعها علاقات قوية بالمغرب، زد على ذلك فالقناة تخضع في جزء منها لتمويل تلك الدولة، الأمر الذي جعل مرة أخرى أكثر من علامة استفهام تطرح حول الأمر، والذي لم يكن حتماً مجرد خطأ مهني، كما يتم تبرير الأمر في العادة.
الدعم المالي والأمن كلمتا السر في علاقة الطرفين:
إذ يبقى التعويل الأكبر والغاية الأساسية للرباط من شراكتها مع دول الخليج يمس بالدرجة الأولى الجانب الاقتصادي؛ إذ تعمل الرباط على استثمار حاجة الجانب الخليجي لحلفاء مؤثرين إقليمياً في حربها المفتوحة مع إيران للعمل على جلب ود الاستثمارات والمساعدات الاقتصادية، والتي تشكل أهمية قصوى للنظام المغربي في ظل نسيج اجتماعي يعاني من الهشاشة والأزمات، واقتصاد مرهون بحاجياته الطاقية للخارج، ويعيش في جزء كبير منه على الديون والمساعدات الخارجية.
حيث تبقى أكبر نقاط الضغط والتأثير المغربية في ميزان العلاقة بين الطرفين تكمن بالخصوص في الاستفادة من الوضع غير المريح الذي تعيشه هذه الدول، خاصة في ظل تورطها في أكثر من أزمة وملف معقد ليس فقط في المنطقة كدعم الانقلاب في مصر والتدخل في سوريا واليمن وليبيا.. وغيرها من الدول، بل حتى في خارجها.
إذ في كل هذه المغامرات هناك مخاطر على الأمن الخليجي، خاصة مع تعدّد الوجهات المفتوحة، وهو ما يعتبره بعض الملاحظين إصراراً على خلق الأعداء والخصوم لأسباب لا يمكن التحكم فيها ولا التنبؤ بنتائجها، ولهذا فإن دول الخليج ترى في المغرب حليفاً عسكرياً و-مذهبياً- يمكن التعويل عليه عند اللزوم.
الأمر الذي يعني ضمنياً أن هذه الدول في أمَس الحاجة إلى حماية ودعم أمني ومخابراتي وعسكري خارجي، الشيء الذي سيمكن الأخير من لعب دور هام في هذا الصدد، وسيمكنه من امتلاك أوراق مضادة بيده.
لكن هذا لا يعني أن المغرب في وضع المتحكم والضابط للأمور ككل؛ إذ إن حاجته هو الآخر للطرف الخليجي لا تقل عن حاجة الثاني إليه، فالمساعدات والاستثمارات الاقتصادية تبقى الهم والشغل الشاغل للمغرب من الشراكة مع الخليج.
فبلغة الأرقام التبادلات التجارية بين المغرب ودول مجلس التعاون الخليجي 28.6 مليار درهم (ثلاثة مليارات دولار)، وهو ما يمثل 4.9% من إجمالي التبادل التجاري للمغرب، مقابل 3.6% في 2000.
واردات المغرب من دول مجلس التعاون الخليجي 26.8 مليار درهم (2.7 مليار دولار)، وهو ما يمثل 6.9% من إجمالي واردات المغرب مقابل 5.3% سنة 2000.
فمثلا المملكة العربية السعودية تعتبر أول مستورد للصادرات المغربية في منطقة الخليج بنحو 920 مليون درهم (مائة مليون دولار)، أي ما يعادل 52.4% من إجمالي الصادرات نحو المنطقة، تليها الإمارات العربية المتحدة بنحو 589 مليون درهم (60 مليون دولار) وبنسبة 33.5%.
أما الإمارات فتعتبر ثالث مستثمر أجنبي مباشر وأول مستثمر عربي في المغرب منذ 2012، كما أنها أول مستثمر في بورصة الدار البيضاء في 2014 بإجمالي 55 مليار درهم من الاستثمارات، مساهمة بـ 1٫25 مليار دولار موجهة لدعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية بالمغرب، فضلاً عن أنها مولت سابقاً مشاريع هيكلية كبرى كالخط السككي فائق السرعة بين طنجة والدار البيضاء، والمركب المينائي طنجة – المتوسط، والطريق الساحلية المتوسطية، إضافة إلى مساهمة الشركة الإماراتية "آبار" في إنشاء هيئة الاستثمار السياحي "وصال كابيطال"، بتعاون مع ثلاثة بلدان من مجلس التعاون الخليجي، من بينها الإمارات.
كما أن لها طموحات في تحقيق أداء أفضل في قطاعات واعدة كالطاقة الشمسية والسياحة والبناء والأشغال العمومية.
وهذا ما يجعل ربما العلاقة بين الجانبين أكثر تداخلاً وتعقيداً مما هي عليها ظاهرياً، وبحكم المعطيات الحالية فإنها على المدى المتوسط ستشهد تطوراً متزايداً وعلى صعيد أكبر ما دامت دول الخليج تعيش تحديات أمنية متزايدة ناتجة بالخصوص من التخوفات من ردات فعل أطراف وجماعات من تدخلاتها المختلفات في أكثر من بلد، وبالتالي هي في حاجة دائمة للدعم المغربي.
الأمر نفسه ينطبق على هذا الأخير، إذا على المستوى المتوسط وفي ظل وضعية ماكرو اقتصادية صعبة للبلد فإنه بالتالي سيعيش هو الآخر على حاجته -للصداقة- مع الخليج، وبالتالي فالعلاقة بين الطرفين ستبقى محكومة بالتوازنات والمعطيات الإقليمية الحالية التي يبدو من غير الوارد حدوث تغيير جذري عليها على الأقل على مداها القريب والمتوسط.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.