في مايو/أيار من ذات سنة، وافق مديري الأميركي في القسم الرقمي لقناة الحرة وراديو سوا بواشنطن، على فكرتي في إنتاج عدد من حلقات الفيديو تحت عنوان "أميركا في دقيقة".
أخبرته أنني كامرأة وُلدت ونشأت بالمغرب، ودرست الإعلام الرقمي بالسويد، وهاجرت إلى كندا، وحاضرت في عدد من دول العالم، قبل أن تطأ قدمي أرض أميركا، تعتقد أن ما يهم القارئ العربي ليس ما يقع ببلده بقدر ما يهمه ما يقع في أميركا الأخرى، أميركا المواطن الكادح.
وافق المدير، وكنت متحمسة لتقديم شيء جديد وغير معهود عن أميركا التي لا نعرف، قبل أن أكتشف أن إعلام أميركا لا يشمل بالحب كل المواطنين الأميركان، وأن إعلام أميركا لا يحب إلا أولئك الذين يظهرون أميركا في صورة الجميلة القوية، وليس صورة الضعيفة والشبيهة بالأخريات.
بدأت الحكاية حين اقترحت على المدير أن أبدأ أولى قصص الفيديو ببائعة الجرائد التي كنت ألتقي بها يومياً بمحطة مترو سبرنغفيلد بولاية فرجينيا، وأنا في طريقي صباحاً إلى العمل.
نظر إليَّ المدير ملياً وكأنه يحسب كلماته جيداً، قبل أن ينطق بها ويقع في جدال معي هو في غنى عنه، وبعد صمت طويل، فتح فمه ليسألني:
* لماذا هي؟
– ولمَ لا هي؟
* نريد قصة مستفزة ترفع من الإقبال على موقعنا مثلما كان الأمر مع أميناتو وأميرتكم.
– تعرف جيداً أن تلك القصة كادت أن تغلق أبواب القناة كلها ومع ذلك دافعت أنت عنها إلى آخر لحظة فلمَ تعترض على بائعة الجرائد؟
* وضع أميناتو وأميرتكم في خانة واحدة كان خطأ وتداركناه لكن لمَ بائعة الجرائد؟
– هذه القصة تدخل في "حقوق المرأة" و"الأقليات" التي قلت إنه علينا التركيز عليها.
* نعم، لكن ما رأيك في تقرير فيديو عن إمام واشنطن المسلم والمثلي جنسياً؟
نظرت إليه بعينين غاضبتين وفم مزموم، وأجبته متظاهرة بالهدوء:
– آسفة لن أنجز تقريراً في موضوع كهذا لا موقف لديَّ ضد المثليين، لكني لن أسيء للمسلمين.
كان غضبي أنني لم أفهم لمَ يرفض أن أتحدث عن بائعة الجرائد الأميركية السوداء التي أصادفها في طريقي إلى العمل، ولمَ يصر بدلاً عنها على أن أتحدث عن إمام مسجد مسلم جهر بأنه مثلي جنسياً، وقال إنه لا يرى في هذا الأمر أي تناقض، وإنه يفخر أنه في واشنطن استطاع أن يجمع بين مثليته وبين عمله كإمام.
صمت المدير وكأنه تذكر أن أكثر الأشياء التي ترفض أميركا الجميلة الكشف عنها في وجهها القبيح هو زيف احترام التنوع الديني في بلدها، فسألني في محاولة لتغيير الموضوع:
* لمَ لا تنجزين تقريراً عن إحدى النائبات الأميركيات في الكونغرس؟
أزعجني اقتراحه أكثر، فطنت إلى أنه يريد في حديثنا عن أميركا أن نتحدث عن نساء قويات، بارزات، مثل النساء في البرلمان الأميركي، لكنه لا يريد أن نتحدث لعالمنا العربي عن نساء يشبهن نساءنا، قلت له:
– لن أتحدث عن البرلمانيات الأميركيات؛ لأن الإعلام يتحدث عنهن بما يكفي في الوقت الذي يهمل فيه الحديث عن امرأة مثل بائعة الجرائد هذه.
* هل من سبب آخر لاهتمامك ببائعة الجرائد تلك؟
– لأنها تذكرني ببائعة الخبز في بلدي المغرب.
كان ردي هذا مزعجاً لمديري الأميركي، فكيف أشبه نساء أميركا القويات بنساء المغرب المستضعفات في نظر هذا الأميركي الأبيض؟
استسلم المدير، فرغم أنه كان عصبي المزاج، فإنه كان يعرف أنني مجادلة قوية، وأنه ليس لديَّ شيء لأخسره أو أخاف عليه حتى يتم إجباري على التزام الصمت كما يفعل بقية زملائي، لكنه أيضاً كان يعرف أنه ومساعديه في قسم التحرير قادرون على ترك الأمور التي لا يرضون عنها تنجز، لكن لا تنشر، وأنه يكفي أن يقفل عليها باب "الصمت الإعلامي" حتى تنسى.
كان يوماً مشمساً وبارداً ذاك الذي استوقفت فيه بائعة الجرائد السوداء، كانت تلقي كعادتها تحية الصباح على المارين إلى محطة المترو وتمدهم بنسخ من الصحف المجانية، حين اقتربت منها وقلت وأنا أنظر إلى الورقة التي تلصقها على ثوب العمل الأصفر ومكتوب عليها اسمها:
مرحباً سيندي.. أنا شامة درشول صحفية وأريد أن أجري معك حواراً، هل تسمحين؟
بدت سيندي متفاجئة، وكأنها تستغرب ما الذي يجعل الإعلام يهتم بها هي بائعة جرائد سوداء، طلبت مني أن أنتظر للحظة، ذهبت إلى زميلها الذي كان يوزع الجرائد في المكان الآخر من المحطة، حدثته للحظات، التفت إلى جهتي، وربما بدا له مظهري غير مشكوك فيه، فتحمس إلى أن يترك مهمة توزيع الجرائد ويأتي مع سيندي إليَّ، كان مثل سيندي، أميركياً أسود، قصير البنية، لكنه بدا عجوزاً، وأقل نشاطاً من سيندي، وأكثر حزناً، ثم سألني أكثر سؤال كنت لا أجد له جواباً في أميركا:
– في أي وسيلة إعلامية تشتغلين؟
كانت مؤسسة الحرة وراديو سوا ممنوعين من البث في داخل أميركا باعتبارهما وسيلة إعلام دعائية أو ما يعرف بالقوة اللاعسكرية؛ لذلك أخبرتهما أنني أعمل مراسلة لمؤسسة عربية، ولم يبدُ زميل سيندي مصراً ليعرف أكثر عن لغة لا يعرف عن أهلها إلا القليل جداً.
أجريت اللقاء مع سيندي، أخبرتني أنها أم لخمسة أطفال، وأنها تكد وتجتهد من أجل إعالتهم براتبها الزهيد الذي تتقاضاه من المؤسسة التي تشتغل بها، كانت في حديثها لا تختلف عن أية امرأة تقاتل من أجل العيش، ولا عن أي أم تخرج للعمل في الصباح الباكر من أجل أطفالها، وحين سألت زميلها عن رأيه في زميلة عمله سيندي قال لي:
"لقد أصبحت عجوزاً وحيداً منذ أن توفيت صديقتي، لكني بحاجة للعمل من أجل تأمين حاجياتي، وحين أمرض، أو أعجز عن المجيء للعمل أتصل بسيندي فتتولى العمل مكاني حتى تتحسن حالتي وحتى لا يضيع عملي ويذهب لشخص آخر أكثر نشاطاً والتزاماً".
كان الرجل يتحدث ورائحة الكحول تفوح منه، بدا منهكاً وعاجزاً في حين بدت سيندي أكثر تفاؤلاً وثقةً، نزعت عن فمها الغطاء الأسود الذي كانت تحتمي به من برد الصباح فبدت لي أسنانها المتساقطة، ومع ذلك كانت ابتسامتها جميلة حتى بنصف أسنان.
عدت إلى المكتب، كتبت التقرير في وقت قياسي، كنت مأخوذة بالحديث عن إنسانين أمرّ بهما كل يوم، ووددت أن أسمع قصتهما مع الحياة، وأطلع القراء عليها، عن هذا الإنسان الذي لا يختلف في أميركا عنه في المغرب.
اطّلع مديري الأميركي على التقرير، وقرأه رؤسائي العرب في التحرير وأثنوا عليه، لكنه لم ينشر يوماً، فهم يعرفون أن أميركا الجميلة لا تحب أن يتحدث إعلام تابع لوزارة خارجيتها عن امرأة سوداء تنهض باكراً لتبيع الجرائد وتعول براتبها خمسة أطفال، لا تحب الحديث عن رجل أسود عجوز مريض سكير..أميركا الجميلة تحب فقط إعطاء الدروس لأغنياء العالم الثالث عن فقرائه، وترفض أن تعترف بفقرائها هي..أميركا لا تحب أن يتحدث أحد إلا عن وجهها الجميل.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.