جمعني القدر والعمل ذات سنة، وبمقر الاتحاد الأوروبي ببروكسل، بزملاء من ليبيا، والجزائر، وتونس، ومصر، وكان ذاك في أوج ما يعرف إعلامياً بـ"الربيع العربي". اقترب منّي زميل من ليبيا، وبدون مقدمات قال لي: "وانتو يا مغاربة إمتى الثورة؟".
نظرت إليه، وصمتّ، كانت ليبيا آنذاك لا تزال صامدة لم تقع بين براثن اللاهثين نحو السلطة تحت رداء الديمقراطية، وكان الفتى مولوداً ببريطانيا، وبها نشأ، ولا يجمعه بليبيا إلا جينات والدَيه، حتى إن تعبت ليبيا من الصمود وانهارت أشهر جواز سفره البريطاني، وتبرأ من أولئك البرابرة الليبيين؛ لذلك صمتّ، ولم أرِد الردَّ عليه، لكنه كان مصراً على أن يلقى جواباً، وأطلق لسانه لعنةً في المغاربة الذين -بحسبه- اختاروا الخضوع بدل دماء الديمقراطية، هنا بدأ صبري ينفد، وأوداجي تنتفخ، ولم ينقذه من غضبي سوى زميل جزائري من لقبايل، قال له:
قل لي يا صديقنا من ليبيا، انت تشرب البيرة؟
نظر إليه الفتى شزراً وقال له: طبعا لا.
فردَّ عليها الجزائري، وقد رفع حاجبه اندهاشاً:
وكيف تحكي عن الديمقراطية وانت ما تشرب البيرة؟
هنا تحولت أوداجي المنتفخة غضباً إلى ضحكة عالية تصدعت لها أرجاء مقر الاتحاد الأوروبي، فقد أعجبتني طريقة صديقي الجزائري في إخماد غضبي والإيقاع بزميلنا البريطاني من ليبيا.
تذكرت هذه القصة وأنا أتابع منذ أيام ردود الفعل على الانتخابات الفرنسية، واليوم وقد أعلن عن فوز ماكرون بكرسي الرئاسة، فكل أصدقائي على فيسبوك من المغاربة والعرب كتبوا نفس الجملة "فوز أصغر رئيس في فرنسا"؛ لأتساءل: هل كانت نفس العبارة سوف تقال إن كانت ماري لوبان هي الفائزة؟
ماري لوبان تبلغ من العمر 48 سنة، وهناك احتمال في أن تكون بدورها أصغر رئيس يتولى حكم فرنسا، لكن لأنه في وعينا أن الرجل لا يزال شاباً ما دام لم يبلغ السبعين من عمره بعد، نعم الـ70، فلا يزال شاباً، في حين أن المرأة وحتى في المجتمع الغربي، ما دامت قد تجاوزت الخامسة والثلاثين فهي لم تعد شابة بعد؛ لذلك، أستحضر عبارة صديقي الجزائري، بأن من لا يشرب البيرة ليس عليه أن يتحدث عن الديمقراطية، كذلك من لا يزال يفرح بفوز ماكرون، ولم يجد من ميزة فيه إلا أنه وصل لكرسي الرئاسة قبل أن يصل سن الأربعين، فعليه أن يعيد نظرته للديمقراطية.
تناقضات كبيرة عبّرنا عنها دون أن نعي أو نشعر ونحن نتابع انتخابات فرنسا.
في المغرب، تفاجأ المغاربة من أولئك الذين يقيمون بيننا وصوَّتوا لماري لوبان، ولست أدري لمَ يتفاجأون لهذا الأمر، وقد صوَّت المغاربة لحزب يميني، هو بدوره يعارض وجود المثليين كما تعارضه لوبان الابنة، ويعارضون وجود أجانب، كما يمتعض اليمينيون من الإسلاميين من وجود "كفار" بيننا، ومواقف اليمين من النساء، وحقوق الإنسان لا تختلف عن مواقف الإسلاميين، فكيف يتفاجأ المغاربة من تصويت مقيمين بالمغرب للوبان، في الوقت الذي يهرعون فيه إلى صناديق الاقتراع حتى يصعد الإسلاميون للحكم؟
وبما أنني أتحدث عن الإسلاميين، لأحكي لكم عن صديق أقول له إنك من أتباع "النبي بنكيران"، ولست مجرد عضو ناشط أو مناضل كما يصف نفسه في صفوف العدالة والتنمية.
هذا الصديق كتب مرةً على صفحته على فيسبوك لاعناً ساخطاً على خبر ذكر أن في المغرب سيتم تنظيم "حفل للبيرة"، في الشارع، على غرار حفل يقام ببرلين، وبمدن أوروبية وغربية أخرى.
الغريب في الأمر، أن صديقي هذا يقيم بأوروبا، ويعيش حسب القوانين الأوروبية، ويمتثل لنمط العيش الأوروبي في احترام الآخر، كيفما كان هذا الآخر، ويرفض العودة إلى المغرب، ويريد أن يحكم المغرب حزب إسلامي وليس إلا حزباً إسلامياً، ولا يستطيع أن يعترض في وطنه البديل على تنظيمهم لحفل للبيرة، في الوقت الذي غضب، ولعن، وسخط، أنه في المغرب سيتم تنظيم الحفل.. فأي فهم هذا للديمقراطية نحمله نحن المغاربة؟
ليس الغرب بأفضل حال منا.. فرنسا التي تقدس في قوانينها المرأة، لم يرحم إعلامها ماكرون، الذي نعتته بأنه مثلي جنسياً، فقط لأنه وقع في غرام معلمته التي تفوقه بربع قرن، أُم، وجدة فرنسا، أرادت سيدة أولى فرنسية بمواصفات فرنسية، لا مواصفات تميل لتلك التي جمعت ذات وقت بين نبي الإسلام والسيدة خديجة.
السيدة خديجة التي تعد امراة قوية بمقاييس هذا العصر، كانت سيدة أعمال، رأت في محمد اليتيم الفقير فتى أميناً، فعرضت عليه الزواج، قدمت له المأوى، والمأمن، وقدم لها الأمان، والرفقة، وكانت له السند حين بُعث رسولاً.
ربما هذا أيضاً ما قدمته بريجيت زوجة ماكرون التي تنتمي لعائلة برجوازية، امرأة ناضجة، استطاعت أن تكون معلمة ماكرون، ولم يبحث هو في المرأة إلا عن الرفقة، والعقل، أكثر من الشباب، لكن لأن الغرب بدوره لم يصل بعد لمستوى "ديمقراطية البيرة"، فقد هاجم بإعلامه ماكرون؛ لأنه سيُحضر إلى قصر الإليزيه امرأة عجوزاً، تتأبط ذراع رجل لم يكمل الأربعين، سن الأنبياء بعد.
الديمقراطية لا تزال حلماً لم نهضمه بعد حتى في الدول التي سبقتنا بأجيال منها.
في كندا، تم التصويت على جاستن ترودو، لأن الكنديين سئموا من وجه هاربز المحافظ العجوز، وأوباما كان قد اقترب من الرحيل، ووجه ترامب الذي يفتقد للوسامة، وهيلاري التي اعتلت وجهها الشيخوخة، تهدد بالقدوم، أميركا الشمالية كانت تبحث عن وجه شاب، وسيم، متكلم، بارع، أنيق، عاشق، زوج مخلص، وأب حنون لأطفاله، فكان التصويت لجاستن ترودو، الذي ربما ما كان ليصعد للحكم لو لم يكن فتى يملك وجهاً صالحاً للسينما أكثر من السياسة، لذلك تحاول حاشيته دوماً الرد على مشاكل كندا من خلال أشرطة فيديو تظهره كفتى إعلانات يقدم إشهاراً لشامبو ضد القشرة، أكثر من سياسي يحاول جاداً حل مشاكل كندا الباردة.
الديمقراطية في الغرب لا تزال وهماً ما داموا يتحدثون عن أصغر رئيس، والرئيس الوسيم، وزوجة الرئيس الأنيقة، والسيدة الأولى العجوز.
والديمقراطية في المغرب لن تكون حقيقة ما دمنا لا نعي أنها مسؤولية وليست امتيازاً، وإلى ذاك الحين، سيكون على الغرب، وعلى المغرب، أن يقتدي بمقياس صديقي الجزائري "لا تتحدث عن الديمقراطية، ما دُمت لا تشرب البيرة".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.